الشاعر بين غَيريته وأنانيته
تطوّر العالم العربي …
حديث عني وعنك …
أحلام مغترب…
أين نحن
نيرون
أين نحن
أحلام مغترب …
1371/6/23 هـ
ظننتُ يوم يممَّتُ وجهي عن بلدي، وانطلقتُ إلى صحراء الحياة؛ أنني يومذاك فقط، انطلقتُ من إسار المدنية والمدينةلأستحمَّ في شمس الحياة النقية، وأرتعَ في صحرائها المترامية، واستجمَّ من كلِّ عناء، وأستريحَ من كلِّ شقاء…
وظننتُ يوم وطَّنتُ النفس على الهجرة؛ أنني آنذاك، قد هاجرتُ عن عقائد إلى لا عقائد، وفررتُ من قيود إلى لا قيود، وهربتُ من كلِّ ما ألِفَتْه أبصاري، وما ملَّتْ منه تخيُّلاتي وأفكاري…
وظننتُ يوم قرَّرتُ الاغتراب؛ أنني إنما أغتربُ عن هذا لأقترب من ذاك، أغتربُ عن جوٍّ لآلَفَ جوًّاً آخر أنا لا أعرفه .. والمرء بطبعه.. ميَّالٌ لكل جديد…
فماذا وجدتُ ؟..
وجدتُ الصحراء تلفحُني بحرارتين؛ هما حرارة الحياة الباردة، وحرارة الشوق المتَّقدة ..
فهربتُ من الصحراء لأنني إنما انطلقتُ من بلدي فراراً من حرارة الحياة الباردة …
ووجدتُ أنَّ العقائد التي هاجرتُ عنها، والقيود التي فررتُ منها، والمألوفات التي سئمتُها، والتخيُّلات الرتيبة التي مللتُها؛ إنما هي تجري مجرى الدماء في عروقي .. فلما وصلتُ الصحراء، تلفتُّ أسألُ عن عقيدة، وأستطلعُ لفعلي قيودَه، وراح نظري يفتش عبثاً عمَّا يسأم، وانطلق خاطري يبحثُ دون جدوى عمَّا يملّ، فما وجدتُ العقيدة التي أفتقدُها إلاَّ أشلاء عقائدي التي هاجرتُ عنها، وما لقيتُ القيود الجميلة الحبيبة التي كانت تُغِلُّ حُريَّتي الخضيدة، وما عثرتُ على منظر أنساهُ، ولا خاطرة أملُّها … فقد كنتُ أدور في حلقة واحدة؛ كلها تقولُ لي: لقد أضعتَ الشيء النفيس؛ لقد أضعتَ الشيء الحبيب، لقد أضعت معناك، كما أضعت إنسانيتك …
فأيُّ معنى للحياة ان لم تقم على عقيدة تناضل من أجلها؛ وهي العقيدة التي تقول بمحاربة كل عقيدة إلاَّ عقيدة الاعتقاد؟.. ومعنى هذا واضحٌ جليٌّ لا يعتوره أدنى شكٍّ، فما من عقيدة إلاَّ وهي تجري مجرى العادة في النفس والإنسان؛ وقديماً اتفق الفلاسفة الكبراء على أنَّ خير عادة إنما هي ترك العادة …
ولكن: هل يعني هذا أنَّ الّإنسان يمكن أنّْ يحيا في العراء، دون عقيدة، ودون التجاء؟…
لستُ أرمي إلى هذا قطعاً، وإنما الذي أراه بالباصرة والبصيرة، أنَّ من الخير للإنسان الفرد أن ينعتق من كلِّ عقيدة أرضية؛ ليبقى إنساناً له إنسانيته المتميزة؛ لا تبِّيعاً كالماء يأخذ شكل كل إناء…
وأيُّ معنى للحياة، إنْ لم أتلفَّتْ؛ فأجد القيود الجميلة المحبَّبة تصفّد قدميّ ويديّ وعقلي وتفكيري .. ووجودي ..؟؟
حديث عني وعنك …
لم نستطع حتى اليوم أن نمتلك زمام الانطلاق إثر هذه المادية المغرقة التي نعيشها والتي ابتلعت موهبتنا الأدبية فصرفتها إلى الصحافة وابتلعت رسالتنا الفكرية فكرسَّتها للتجارة وابتعلت إنسانيتنا الرفيعة فحولت مجراها إلى البشرية المنحطَّة التي تعيش لتأكل ولو من جسدٍ نتن.
أجل لم نستطع حتى اليوم، بل لم نستطع اليوم أن نعيش غير هذا الواقع الحياتيِّ المخزي لا المحزن والمضمَّخ بالعار لا بالطيب والموشَّى بالزيف لا بالجوهر والمحلى بالرذيلة لا بالفضيلة.
وأنت لو سألتني سبب ذلك لقلت لك: أنت والفكر والقرش.
أنت بهذه الـ “أنا” الكريهة.
والفكر بوضعه تحت إمرة القرش.
والقرش بكونه سلّم الرقي ودرجة شرف المنحدر.
أنت من أنت
هل ترى قام في ذهنك أن تحدِّق في واقعك لتناقش “أنا” من خلالك وتستشف ما وراءها….أنت …
لقد قام في ذهنك – كما قام في ذهني – أنّ “أنا” لا تعيش إلاّ على “أنت”. فإن كنت “أنت” لم أكن “أنا” وأن كنت “أنا” لم تكن “أنت”.
فأنت وأنا مسميَّان لجسدين لا يحلُّ الأول محلَّ الثاني إلاّ بانعدام أحدهما. فكما أن الجسم لا يشغل إلاّ فراغاً واحداً، كذلك “أنا” لا تشمل إلاّ فراغاً واحداً. وكم كان هذا الفراغ “أنت”…
ومن “أنا” ومن “أنت”…
لا تضقْ يا قارئي ذرعاً بهذا الترديد ومحاولة التحدث بأسلوب الفلسفيين. ولا تدع للـ “أنا” في نفسك أن تعمل عملها وأنا أتحدث إليك في شأنها.
أنت وأنا مخلوقان موهوبان أحياناً متفاوتان موهبة حتماً. منفعلان وفاعلان. الفكر مأجور لنا حيناً – إن انطلق من ربقة القرش. ومأجوران للفكر أحياناً – إن لم ينطلق من ربقة القرش- معمودان في حب الحياة ؛امرأةً وقلماً وجاهاً ومنصباً. فقيران إحساساً بالمستقبل أو غنيَّان به. مشبعان شعوراً بالواقع أو جوعانان إليه. منطلقان حرية أو مقيَّدانها أو أسيرانها. فقد يكون المرء سجين حرية وهو أسمى درجات العبودية…
فهل عرفت من “أنا” ومن “أنت” .. ما أظن ذلك أبداً. لأن الخطوط التي قدَّمتُها لك أسطراً مكتوبة أنت – لا “أنت” – تعرفها جيداً كما أعرفها. ولكن الذي أريد أن أقرره هنا هو هل هذا الـ “أنا” وهذه الـ “أنت” من الواجب – على ضوء هذه الخطوط – أن تعيش إحداها على الأخرى أو أن لا تعيش الواحدة إلا بعد إزالة الأخرى …
مئة قضية وقضية، بل ألف قضية وقضية بل ألف قضية وقضية يمكن وضعها على خوان البحث نخرج منها جميعاً بنتيجة واحدة هي:
(لقد آمن الأدباء والمتأدبون منذ النشأة الأولى بأنه لا يكون أحدهم حيث يكون الآخر).
ولكن شخصاً أو إنساناً أو رجلاً واحداً في هذا العالم – وقد يعضده أو سبقه امرؤ مثاليٌّ غيره ولد يوم مولد الرفق وقد يكون هناك غيره أيضاً دون حصر – لم يؤمن بهذه النظرية بل آمن بنظرية أبقى على الدهر وهي القائلة
( إنه يجب على المجموع أن يكون في واحد. ويجب على الواحد أن يكون في المجموع ).
تطوّر العالم العربي …
نُشرت في اليقظة العربية السفر الثاني 1946