رسالة إلى ومن “روحي فيصل”

رسالة إلى: “عادل الغضبان”

رسالة إلى:  الدكتور “أمين رُوَيحة”

رسالة إلى مجلّة “الرّسالة”

من وإلى “ميخائيل نعيمه”

رسائل من وإلى “ميخائيل نعيمه”

من “ميخائيل نعيمه”

بسكنتا – لبنان

27  ك1، 1943

حضرة الأستاذ زهير ميرزا المحترم

       سلامٌ عليك، وبعد فقد تناولتُ رُقَيمكَ اللّطيف بشأن ما اعتزمتْه “أسرة الثقافة العربيّة” من نشر مؤلَّفات لكُتّاب سوريا ولبنان على غرار سلسلة “اقرأ” في مصر. وإني لآسفٌ إنْ أراني عاجزاً في هذه الأيام عن المساهمة في مشروعكم الذي أتمنى له أعظم التوفيق. ذاك لأنَّ لديَّ الآن بعض مؤلَّفاتٍ لا بُدَّ من إنجازها وهي لا تصلح لمثل السلسلة التي تنوون نشرها ولا تترك لي من الوقت متَّسعاً للاهتمام بسواها.

          أرجوك معذرةً. وليجعل الله مشروعكم ينبوع خيرٍ للعربيّة العزيزة وأبنائها الأعزّاء.

                                                                                                                                                                                   الدّاعي لك بالخير

                                                                                                                                                                                   ميخائيل نعيمه

بسكنتا 9 شباط 1944

عزيزي الأستاذ زهير ميرزا

 سلامٌ عليك. وبعدُ فإني أحمد الله على نورٍ يقرّبني من الناس ويقرّبهم مني فيجعلني أحسُّهم لحماً من لحمي وعظماً من عظمي مهما يكن جنسُهم أو دينُهم أو موطنُهم. وإذا ما كان لما أكتبه قيمة على الإطلاق فقيمتُه ليستْ في الشُّهرة التي يُكسبُنيها بين الناس. تلك رغوةٌ لا قوتَ فيها ولا رِيّ. وإنَّما قيمتُه في جذوةٍ من المحبّة أضرِمُها في قلوب الذين يستسيغون ما أكتبُ ويستطيبون ما أقول. وها أنتَ قد فتحتَ لي قلبك، ويلوح لي أنَّه قلبٌ لا يتظاهر بما ليس فيه، ولا بأكثر ممّا فيه. فالشُّكر لك.

  إنَّ عالمنا عالمٌ محمومٌ مهذار؛ فمن محمومٍ بحُمَّى الكسْب، ومن محمومٍ بحُمَّى السّلطة، أو حمَّى الشُّهرة، أو العظَمة، أو الشّهوة الجنسيّة، أو الدّرس والتّحصيل، إلى ما هنالك من شهَعواتٍ لا يخمد لها أوار. وكلٌّ يَهذي بما في قلبه. أمّا المحمومون بحُمَّى الشّوق إلى الخلاص من حُمّايات الأرض وهذَيانها فما أقلَّهم. وإني لأرجو أن تكون حُمّاكَ من النوع الأخير.

    هذا وتقبَّل يا أخي أخلص تمنياتي وأصدق دُعائي.

                                                                                                                                                                                                                   ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 25 آذار 1944

     عزيزي الأستاذ زهير

      عندي كتابٌ جديد لم يُنشَر بعد أسميته “كَرْمٌ على درب”. وهو كنايةٌ عن مجموعةِ شذورٍ وأمثال، منها الشّذرة الآتية: “كلّما وضعتُ يدي في يدٍ ما لمستُها من قبل قلتُ “تباركَ الله! فتحٌ جديدٌ وكنزٌ لا نفادَ له.” وأنا، وإنْ كنتُ لم ألمسْ يدَكَ بيدي إلى الآن، أشعر أنَّ لي فيكَ فتحاً جديداً وكنزاً لا نفادَ له. ففي رسائلك إليَّ حرارةٌ قُدسيّة لا أريد أن أعتقدها منبعثةً من إعجابك بشخصي، بل من إيمانك الحيّ بالحقِّ المُتجلي فينا بدرجاتٍ تتفاوتُ بنسبة فَهْمِنا له وانجذابنا إليه.

                                                                                                                            …..

تسألني عن علاقتي بجبران وإلى أيّة درجةٍ من درجاتِ سُلَّم المشاعر الصوفيّة تنتسب. وأنا ـ بصرف النظر عن مراتب إخواننا الصوفيين – أجيبُك أنّها كانتْ أخوّةً صادقةً قائمةً على وفاءٍ متبادل، واتجاهٍ روحيٍّ متماثلٍ، ونزعاتٍ أدبيّةٍ وفنيّةٍ متجانسة. ولكنّها ما ملأت حياتي إلى حدّ أن لا تترك متّسعاً لسواها. بل إنني أستضيقُ قلبي إذا هو لم يتّسع لكلِّ قلب، وفكري إذا هو لم يتّسع لكلِّ فِكْر. ولا أرضى لنفسي أن تكون جدولاً أو نهراً حتى ولا بحراً بل أوقيانوساً.

     أرجو أن تُوفَّق إلى نشر مسرحيّتك “مصرَعُ المثّال” وأنْ يُسعدني الحظُّ بتلاوتها.

     وعليك وعلى زوجك الكريمة وشقيقاتك اللطيفات السّلام من

                                                                                                                                                                                                              مُحبِّك

                                                                                                                                                                                                       ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 12 نيسان 1944

عزيزي الأستاذ زهير

لا تحاسبني بالسّاعات والأيّام إذا ما تأخَّرتُ في الكتابة فلم أُجِبْك على رسائلك في الحال. فقد يكون لذلك أسبابٌ وقد لا يكون. والمهمُّ أن نجعل الزّمن خادمنا فنسوق السّاعات والأيام بدلاً من أن تسوقنا. والمهمُّ ألّا يغرب عن بالك أني معك وأنك معي في كلّ حين. فحيوات الناس كالخيوط في نسيجٍ لا بداية له ولا نهاية؛ تتقارب آونةً وتتباعد أخرى، وتتّصل هنا وتنفصل هنالك، إلّا أنَّها وحدةٌ متماسكةٌ في نسيجٍ متماسك. فعلاقةٌ تبدو لك ابنة اليوم لَأقدمُ في الحقيقة من اليوم ومن كلِّ يوم. وإذا ما حسِبتَها “جديدة” فلأنَّ أوَّلَها وآخرها – ماضيها وآتيها – قد غابا عن الحسِّ الذي لا يعي غير المحسوس من الزمان الحاضر. أمّا الذين أوتوا من خيالهم مقدرةَ الانفلات من الحاضر المحسوس فهم على اتصالٍ دائمٍ بكل ما في الزمان. وما من “جديدٍ” أو “غريبٍ” عندهم على الإطلاق.

أقولُ ذلك لتعلمَ مقدار شعوري بقُربك منّي ووثيق صلتك بي. فأنت، وإن حسِبتَ أنك ما اتصلتَ بي إلّا أمس، كنتَ أبداً على فتحة جفنٍ منّي. وكان هذا الجفن مُغمضاً فانفتح. وما أنت ولا أنا الذي فتحه. بل مشيئة الحياة المباركة العاملة في جَفنك وجَفني.

تقولُ إنك ممَّن يقرأون بين السُّطور – وما أقلَّ ما هم! وإنَّك إذ تقرأ تُعير المُفردات وكيفيّة رصفِها أهميةً كبيرة. وأنا أقول لك: نعمّا، نعمّا! فما الكلام في اعتقادي غير رغوة الفكر. أمّا الزّبدة فمحجوبةٌ خلف الحروف والمقاطع. ولكنْ للشكل الذي تتَّخذه تلك الرَّغوة أهميةٌ عظيمةٌ في الوصول إلى الزّبدة. والفنُّ ليس أكثر من تطبيق الظواهر على البواطن وإبراز غير المحسوس في أكسيةٍ محسوسة. أمّا الجمال فالتناسق ما بين اللّابس واللّباس. فلا عجب، وأنت الموسيقيُّ والشاعر والمحبُّ أن تفتش في الكلمات عن أنغامها وألوانها والعواطف التي تتماوج في شطآنها علاوةً عن معانيها. أفلا توسَّعتَ فأخبرتني زيادةً عن موسيقاك وعن شعرك؟

لا تيأسنَّ يا أخي ولا تيأسنّ قرينتُك الحسّاسة من أمر مسرحيّتك. فهي إنْ تكن معدّةً للحياة فلا أنتَ ولا سواك يستطيع دفنَها. وقد يكون آنُ أوانِ ظهورها ما آنَ بعد. وقد يكون أنَّ “القابلة” التي رجوتَ أن يكون ظهورها عن يدها ما كانتْ قابلةً ماهرة، أو كانتْ من القابلات اللواتي ما تعوّدن استقبال مواليد من نوع مولودك. ففي كلِّ حال ليس ما يدعو إلى الدّمع والتحرُّق. ومن أصدق ما قيل قولهم إنَّ الأمور مرهونةٌ بأوقاتها. ونحن لو شئنا لما استطعنا أن نستقدمَها لحظةً أو أن نستأخرَها لحظة. فما علينا إلّا أن نعمل ما نحن مؤمنون بخيره لنا وللغير تاركين النتائج لمَنْ يعرف الأسباب. ومَنْ مِنَ الناس يعرف الأسباب البعيدة والقريبة ليحكم على النتائج القريبة أو البعيدة!

– وليكن السّلام في قلبك وقلب كلِّ مَنْ في بيتك.

 

                                                                                                                                                                                                       ميخائيل نعيمه

 

بسكنتا، 4 ت2 / 1945

فيمَ اللّجاجة يا عزيزي زهير؟ كأنّي بك تُحصي عليَّ رسائلك وسطورها، ولا تكاد تُودِع إحداها صندوق البريد حتى تبيتَ ترتقب الجواب. أتحسبُني لا أتناول رسائلَ إلّا منك، أو أنْ لا شغلَ لي غير المراسلة؟ ومن ثمَّ فلا أظنُّني في حاجةٍ إلى مهمازٍ للقيام بما أراه واجباً عليّ. فما تلكّأت يوماً في الردّ على رسالة وجدتُها تستوجب الردّ بغير تأجيل. وقد أهمِلُ أخرى لا أراها حريّةً بالجواب. أما قلتُ لك مرّةً إني أقابل الشكَّ بالصّمت؟ وعلى النّمط عينِه تراني أقابل اللّجاجةَ بالتماهل، وحبَّ الظهور بالإغضاء، والثرثرة بقلّة الكلام، والنَّهَم في كسب المديح بالتقصير المُتناهي في المديح. أمّا الإيمان، والصّبر، والحشمة، واللسان الملجوم بالحكمة، والوداعة الواثقة من صدقها، – أمّا هذه وما كان على شاكلتها فلا حدَّ لما تستطيع أن تأخذه من فكري وقلبي، وحتى من لحمي ودمي.

  وأنت شابٌّ متعدِّدُ النَّزَعات، صادقُها، يا زهير. ولكنَّك لجوج. ولن تستقرَّ على حال حتى تُخفِّف من لجاجتك. وخيرٌ لك ألّا تسابق الزمان؛ بل الأفضل أن تماشيَه فتتَّخذه رفيقاً تتوكّأ عليه لا منافساً تنافسه. فلن تقطع الزمان في عمرٍ واحد. وأنت محظوظٌ بما أوتيتَه من مواهبَ لا شكَّ فيها. فلا ترفس الحظَّ ولا تقتلْ مواهبَك بمحاولتك استغلالها قبل أن تنضج. بل اعملْ بصبرٍ وبإيمانٍ على تنميتها. وموهبةٌ واحدةٌ تنضج لَخزّانٌ لا ينضب. وهي خيرٌ من ألف موهبةٍ فجّةٍ تُستَغلُّ قبل أوانها. ومن ثمَّ فلا تنسَ أنَّ الإنسان مهما عظُمَتْ أعمالُه في عين نفسه وعيون الناس فهو أبداً أعظم منها كإنسان في نظر الحياة.

 يسرُّني أن تعود إلى “جبران” فتجد فيه أشياء لم تجدْها في عشرين مرّةٍ قرأتَه فيها من قبل. وأعتقد – من غير ادِّعاء – أنك لو عدتَ إليه بعد عامين لوجدتَ أشياءَ لم تجدها اليوم.

 سلامي عليك وعلى زوجك الكريمة وقبلةٌ مني للصغيرة صانَها الله وصانكما.

                                      ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 16 ك 1، 1945

يا عزيزي زهير

سبقتَني بساعاتٍ قليلة. فقد كنتُ عازماً أن أكتب إليك وإذا برسالتك تأتيني وفيها عتبٌ لطيف غفرتُه لك. وإذا بها متوَّجة بكلمتَي “المستشفى العسكريّ” فما معنى ذلك؟ وماذا أنتَ فاعلٌ في المستشفى العسكريّ؟ إنْ يكن قد ألمَّ بك مرضٌ فرجائي أن تكون قد تغلَّبتَ عليه وتغلَّبتَ على لَجاجتك. ولعلَّ مرضك ما كان داءً بك بل دواء إذا صحَّ ما تقولُه إنك “أصبحتَ إنساناً آخر مخلوقاً من هناءةٍ ورخاءٍ لا من تشاؤمٍ واكتئاب”. وقد قيل من زمان “وربما صحَّت الأجساد بالعِلل”.

أراك طلّقتَ كرسيّ المعلِّم من أجل كرسيّ المحرِّر. فمَنْ هم القائمون على المجلّة التي تنوون إصدارها، وهل لها من العدّة الماديّة والأدبيّة ما يمكن لها البقاء ولو لعَقْدٍ من السّنين؟ –

لن تجدني مُساهماً دائماً في أيِّ صحيفةٍ مهما سمَتْ منزلتُها وسمُنَتْ خزانتُها. ذاك لأنني أكره التقيُّد. فلا أكتب إلّا ما أشاء وإلّا عندما أشاء. فإذا وجدتُ بعض ما أكتبه لائقاً بمجلةٍ ما، أو وجدتها لائقةً به، أرسلتُها إليها. أمّا أن أكتب لهذه الصّحيفة أو تلك كتابةً خاصّةً فأمرٌ نادرٌ جداً. وقد أتقاضى أجراً وقد لا أتقاضى. أمّا إذا تقاضيتُ فلا أرضى عن مقالٍ يُذاع في ربع ساعة أقلّ من مائة ليرةٍ سوريّة. لو كان مشروعُكَ محصوراً فيك وحدك، ووجدته من حيث الذّوق والبضاعة الأدبيّة التي فيه جديراً بالمؤازرة لآزرتُه بدون أيّ مكافأة، وذلك تشجيعاً لك.

          سلامي ودعائي لك، أخي وعائلته يشاركونني في السّلام عليك.

                                                المُخلِص

                                          ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 7 كانون 2، 1946

السّلام يا أبا مروان

       وبعدُ فما كنتَ أمس، ولا أنتَ اليوم، ولن تكون يوماً من الأيام في نظري “حشرة من حشراتٍ إيمانُها لا يضرُّ ولا ينفع”. ولكنَّها طبيعتُك القلِقة المُتحجِّبة بحُجُبٍ كثيفةٍ من المَجاز والتورية، تأبى السّفور ثمَّ تلوم الناظرين إليها كيف لا يُبصرون ما خلف الحجاب من غير أن يهتكوه.

      لعلّني أقرأ بين سطورك أكثر مما أقرأ فيها، ولكنني لا أبوح بذلك إلّا لنفسي، وإلّا كان ذلك مني تدخُّلاً فيما لا يعنيني. وأيّ حقٍّ لي أن أعرف عنك وعن حياتك أكثر ممّا تريد أن تبوح لي به؟ أيّ حقٍّ لي أن أسألك عن مصدر هناءتك وغبطتك وانقلابك على لجاجتك ما دمتَ لا تكشف لي ذلك من تلقاء نفسك؟ لك في الحياة سبيلُك ولي سبيلي. ولك في الكتابة أسلوبُك ولي أسلوبي، وأسلوبي لا يطيق اللّف والدوران؛ بل أنا أقول ما أريد قوله بصراحة وأكتم ما أريد كتمانه دون أن أخشى لومة لائم. فما أعطيه للناس من نفسي هو حقُّ الناس عليّ. وما أكتمه هو حقّي على الناس، وهو حقٌّ أحتفظ به إلى أن يحين الحين للتنازل عنه. ولكنني ما أحسستُ يوماً بحاجة إنسانٍ إلى ساعدي إلّا قدَّمتُ له عينيَّ وأذنيَّ وكلَّ قوتي كذلك. اللّهمَّ أن تكون الحاجة ذات صلةٍ بلباب الحياة لا بقشورها. وما عرفتُ إنساناً آمنَ مثل إيماني إلّا جعلتني رفيقاً له وأخاً وصديقاً. ولكنّ سَبْر إيماني والقوة التي يرتكز عليها ليس بالأمر اليسير ـ وإني لأرجو أن تبلغَه يوماً ما ـ ولكنه يصعب بلوغَه على الذين يُكثرون التشكّي والتّشكيك، ومن الاهتمام بما يقوله فيهم الناس من مدْحٍ وقدْحٍ وهذَيانٍ لا يرفع المرء قيد شعرة ولا يحطُّه قيد شعرة.

– هذا، وليكن الحقُّ دليلك إلى الحقِّ.

                                                                   .                                                                                                                                          مُحبُّكَ

                                                                                                                                                                                                    ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 20 ك 2، 1946  

  لا تحرجني يا زهير، بل ادَّخرْ ما بي من عطْفٍ عليك لغير هذا اليوم ولغير هذه الغاية. فأنا أبتعد عن الصّحافة جَهْدَ استطاعتي، لا لشيءٍ إلّا لأنه يُرهقُني أنْ أوزِّع نفسي في كلِّ ناحيةٍ يُريدني الناس أن أوزِّعَها فيها. وأنتَ لو كنتَ وراء مكتبتي وقرأتَ ما يأتيني من دعواتٍ للكتابة في الصُّحف وللمحاضرات لعرفتَ السرَّ في ابتعادي عن أعمدة المجلّات وعيدان المنابر – إلّا القليل منها. لي رسالةٌ أؤدّيها، وأنا القيّمُ عليها، وأنا أعرف لمَنْ أكتب، وماذا أكتب، ومتى أكتب. أمّا الإكثار من الكلام عنها، وأمّا الثرثرة فذوقي يمجّهما.

  ومن ثمَّ فلستُ أرضى لك أنْ تُعلِّق حياتك على عملٍ واحدٍ أو مشروعٍ واحدٍ مهما جلَّ في نظرك. وإني لأعرف ما في القيام بحياة مجلة من الإغواء والإغراء لمَنْ كان مثلك. فأنت تتعشَّق فنَّ الكتابة إلى حدِّ نكران الذّات ـ وتلك خِلَّةٌ محمودةٌ ـ ولكنك تنسى أنَّ العشق وحده لا يخلق المعشوق. فلا بدّ لك من حصّةٍ أوفر من فنون اللغة وآدابها، ومن الفنون والآداب العالمية، التي لا تكتمل اليوم ثقافةٌ بدونها.

أقول لا تُعلِّقْ حياتك على مجلَّتك حتى إذا أخفقت المجلة – لا أذن الله – أحسستَ أن حياتك انتُزِعتْ أسسُها وضاعتْ معانيها ومعالمها. اعمل كل ما في قدرتك للمجلة ودعِ النتائج لعالِم الغيب وسيّد الأقدار.

  وإني لأدعو بتوفيقك وأسلِّم عليك وعلى مَنْ في بيتك أطيب السّلام.

                                                                                                                          ميخائيل نعيمه

بسكنتا، 8 نيسان 1946

     عزيزي زهير

     سكتُّ عن رسالتيك الأخيرتين كلَّ هذه المدّة عن قصْدٍ وتصميم. فأنا أريدك أن تحلَّ مشاكلك بنفسك، إلّا الذي استعصى عليك منها. وألّا تنسى أنَّ المشاكل تأتينا ومفاتيحُها فيها. فما عليك إلّا أنْ تُحسِنَ التفتيش مُتّكلاً على نفسك إلى حدّ، وعلى القُدرةِ التي أوجدَتْك إلى أقصى حدّ. أمّا التفجُّع، وأمّا الشّكوى، وأمّا الخوف من حوادث ـ قد تطرأ وقد لا تطرأ ـ فأمورٌ لا تليق بالرّجال. فكيف تسمح لنفسك أن تسترسل في الضّعف إلى حدّ أنْ تخنقها المخاوف من موتٍ يأتيك من هذه الناحية أو من تلك؟ وهكذا تموتُ ألف مرّةٍ قبل أن يدركك الموت مرّة. ومتى جاء الموت فلا أنت تدري ولا أنا أدري من أين يجيء، والرجل الرجل مَنْ كلّما فكّر بالموت قال له من كلِّ قلبه: “أهلاً وسهلاً”. فما هو بالماحي الذي يتوهَّمُه ضعفاء القلوب. ولا هو بالعدوِّ اللّدود. بل إنَّنا – لو تأمَّلناه بلا خوفٍ – لعرفنا أنَّه الصديقُ الودود، وأنَّه العبّارةُ من عُمْرٍ إلى عُمْر، ومن حياةٍ إلى حياة.

          هذا وعليك وعلى ذويك أطيب السّلام

                                                                                                                                                                                      ميخائيل نعيمه

إلى “ميخائيل نعيمه”

 

 دمشق 1944/6/10

شركسية – تغالبة – 187

 سيّدي الأستاذ،

 مهما حاول الإنسان أن يُلِمَّ بخبيئة الناس واعتقدَ في ذلك الكمالَ فإنَّه لاشكَّ يفتقد البيئة التي عاش فيها ذلك الإنسان والعواملَ التي كَيّفتْ شكل حياته. فالعالِمُ النفسانيُّ ـ لا شكَّ ـ يستطيع أن يضعَ أوائل خطوط حالات النفس! ولا شكَّ أيضاً ليس بالواثق تمام الثقة أنَّ هذه الخطوط هي الخطوط الأخيرة لمثل هذه الحالات.

 صحَّتي، لله الحمد، بتقدُّمٍ مستمرٍّ وإنْ كنتُ أعتقدُ أنَّ الشتاء القادم سيكون قاسياً عليّ كما البشر.

لن أحاول أن أردَّ على رسالتك الكريمة التي شرَّفتني بها إذ تحدّثتَ إليَّ عن نفسي، لأنني مخطئٌ حيثُ أنتَ مُصيب.

 سأستمع إلى نصيحتك الكريمة فأئد مواهبي وأدفنها حتى يستقيمَ لي الصبر وأستقرَّ على نبرةٍ واتّجاه.

 أرسلتُ لك – على طبعي القلق وحياتي المضطربة – رُقيماً فيه من اليأس شيءٌ كثير، أرجو أن تضربَ عنه صَفْحاً وتتناساه.

 لن أطمح بعد اليوم، ولن أتركك تحسُّ أنَّ في كتابتي روحاً جيّاشاً وصادقاً، ولن أتلمَّس طريقي بين الوتر والرّيشة والقلم ـ يا سيّدي الأستاذ ـ لأنني لستُ لهم. أتريد أن أعاهدك وأقسم بك لك أنْ لن أمَسَّ القلم ولن أُقبِل على الرّيشة والوتر؟ لا الآن ولا إذا ما عادتْ إليَّ العافية؟ أتريد ذلك؟ إنَّني ـ يا سيّدي الأستاذ ـ من تلك الفئة التي انصهرتْ واستحالتْ حتى أصبحتْ لا تُقيم وزناً للنفس، ولا ترى في نفسها إلّا أنها تتكيَّف كما أشاءُ أنا لا كما تشاء هي أو مواهبي؟

  أنا موسيقيٌ، ولكنني أستطيع أن لا أكونَهُ، وأكونُ حفّار قبورٍ أو مُقيم جدران.

  أنا شاعرٌ، ولكنني أستطيع أن لا أكونَه، وأكونُ رياضيّاً أو عاملاً من عمّال حفر المناجم للتنقيب عن الفضَّة والنُّحاس.

 أنا ألطِّخُ الألوان، ولكنني أستطيع أن لا أكونَه، وأكون كاتب قبّانٍ أو في جمعية رعاية اللُّقَطاء من أولاد الزّنى.

    هنا الفرقُ فقط! النّاسُ تؤمن بالموهبة وأنا لا أؤمنُ إلّا بالعبقريّة، وما هي العبقريّة المقصودة هنا، هي الفاعليّة الشخصيّة!! هي الوحيدة التي أؤمن بها وأقدّسُها! فاطلبْ مني أن أكونَ أيَّ شيء أكنْهُ حتماً ولو كان زبّالاً.. وليستْ هذه المهنة بالوضيعة، لا! فالإنسان الذي لم يُخلَق ليكون زبّالاً ويكونه هو العبقريُّ، أمّا الإنسان الذي خُلق ليكون زبّالاً ويكونه فما هو بالعبقريّ وإنْ أبدع في تكنيس الطُّرُقات وتنظيفها. ومن هنا يتَّضح أنّهُ ليس من الواجب أن أكون على وفاقٍ مع نفسي حتى أكون على وفاقٍ مع الناس أوّلاً ومع الخلود ثانياً. إنَّ نفسي هي طيُّ إشارتي، فكما أريدُها يجب أن تكون. وإلّا، فأينَ وجهُ الفاعليّة الشخصيّة القائمة على أسس العقل؟

 اطلبْ منّي أن أكون أيَّ شيءٍ أكنه حتماً، وأنا رهنُ إشارتك.

         إنَّ ثماري ليستْ أنفع للنّاس من الهواء والماء، وإنَّما هي ثماري وهي أنفع لي من الهواء والماء و ليس للنّاس !  لكي أحصد ولا  ليحصدون، لأنهم لم يعلموا ـ لشحوب أضوائهم ـ بأنني قد بذرتُ.

 أنتَ تعتقدُ ـ يا سيّدي الأستاذ ـ أنَّ ما قاله الطبيب – ومتى كان الطبيب معصوماً عن الخطأ؟ – لا يبعث على مثل القنوط الذي يشيع في سطور كتابي الأخير إليك. وهذا حقُّ فيما لو كان القنوط هو نتيجةً أو بالأصحّ هو النتيجة الوحيدة لقول الطبيب – الذي ليس فقط طِبُّه معصوماً عن الخطأ بل هو غارقٌ في حمأة الخطأ -.

        إنَّ القنوط وهذه اللّجاجة التي تشويني شيّاً ـ يا سيّدي الأستاذ ـ هما نتيجةٌ لعوامل عدّةٍ تكاتفتْ واتّحدتْ لكي أصبح في مثل الحالة التي أنا فيها الآن. أنت تعيش في بُرجك العاجيّ لا تحملُ من هموم الحياة إلّا اسمها، ولو حاولتُ أن أعرض أمام عينيك بعضاً من اللوحات التي تمثّلني في بعض تلك العوامل لأشفقتَ على نفسك لأنك طلبتَ إليَّ أن أخبرك عنها؛ فاستشرْ نفسك…

 حكمتَ عليَّ من خلال قصيدةٍ واحدة، وقد كنتُ أرجو لو طلبتَ إليَّ أن أسوق إليك بعضاً من شِعري “قد” ترى بعدها أنَّ عدم استقرار النّبرة والاتّجاه هو السّمة الخاصّة بشِعري.

 تباركَ مَنْ قال:

                                       “وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم؛ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ”

                                                                                                                                                                                                                   المُخلِص زهير

دمشق  1946/5/17 

شركسية – تغالبة – 187

 سيّدي الأستاذ نُعيْمه

 ما أضلَّني التفكير يومَ اعتقدتُ أنك لا تُقيم وزناً لإيمان أمثالي بك وبنبوّة أفكارك، بل كنتَ في جميع مراحل معرفتي بك تؤيّد هذا الرأي – إنْ سرّاً في الضمير أو علناً على القرطاس.

 لستُ أدري ما الذي أريد أن أقولَه! ففي نفسي مللٌ حتى من الملل؛ وفيها كآبةٌ صامتةٌ لا تُبدع ولكنها تُميت، وهل الموت إلّا انعدام الفاعليّة…؟

 قرأتُ شيئاً من كتابك الأخير “لقاء” وبقيتُ مُصِّراً على أنَّه لم يكن من المُستحسن وضع كلمة “كمنجة” في مثل هذه الصّيغة اللاعربية والتي هي في الواقع أقربُ إلى العامّية منها إلى أشباه الفصيحة! وعلى كلِّ حال، فالمُطالِع لقصة “لقاء” يفتّش عبثاً عن ميخائيل نعيمه خلال الأسطر أو خلال الفكرة!

 عفوك فما بي أن أتطاول، ولكنها انتفاضة ما أحبُّ أن أخونك إذ أكتمها عنك!

 هل تنصح لي بقضاء أبعاض الشهر في “بسكنتا”؟

 قرأتُ نقدَك الذي وجَّهته إلى قصيدتي في “أسمهان” وأعبتَ عليّ كثيراً، ولم تُشِرْ إلى حسَنةٍ واحدة؛ وكان في رأس ما أوردتَ قلقُ القوافي. فهلّا تكرّمتَ وعُدتَ إلى القصيدة ثانيةً، إنْ كان بكَ أن تعود إليها، وقلتَ لي في القوافي قولاً جديداً؟

 رسائلك إليّ قليلة – وأنا أعلم أنَّ كثيرين … من أمثالي مَنْ تكتب إليهم – وهي على قلّتها تحاول فيها أن تبقى في بُرجك الفكريّ لتقول وتوحي دون أن تتقرّى نواحي الضَّعفِ فتُعمِلَ فيها محاولات إصلاحٍ، فهل بك مللٌ كما بي؟

 إنْ كان بك هذا الملل، فدعني أقرأه كلماتٍ على رسالةٍ منك عسى بعدها أقتصر، إن كنتَ ترغب ذلك فما أحبُّ أبداً أن أكون منبَع إزعاجٍ حتى إلى ظلّي!

أكتبُ في هذه الفترات قليلاً، وأنظمُ أقلّ بكثيرٍ جداً، وما ذاك إلّا لافتقاد الفاعليّة والنشاط، أو لكأني بنفسي وقد أشرفتُ على التّسعين مللاً من حياةٍ فاسدةٍ مُبتداها كمُنتهاها، وحشوها إرهاقٌ فارغٌ، طاحونةٌ بدون طحين، وإنْ كان هناك من طحين، فلا يمكن أن يوجد إلّا إذا وُجدت الموادُّ الخام، وما الموادُّ الخامُّ إلّا فُتات أكبادنا، ونظرنا وقوتنا وفاعليّتنا!

 بعد غدٍ يصلكَ العدد الأوَّل من “اليقظة العربيّة” فإنْ راقكَ فاكتبْ فيه، فإنّ للصدِّ حدوداً.

 تحياتي لمَنْ يتفضَّل بالسّؤال عني!

                                       المُخلص زهير

رسالة إلى مجلّة “الرّسالة”

 ردّاً على مقال (مآخذ أربعة) على قصيدة شهرزاد 

 حول “مآخذ أربعة”

1949/3/18

تفضَّل الأديب الطُّلعة “سامي حسين حبش ـ في العدد 819 من مجلة الرّسالة الغرّاءـ فشمل قصيدتي “شهرزاد” بثنائه الكريم ونقده الرّفيق؛ ورأى في القصيدة مآخذ أربعة أخذها عليَّ.

وردّي عليه كما يلي:

ذهب الأخ الناقد في تفسيره لكلمة “مغنى” الواردة في البيت التالي:

” كأسكِ الفنُّ. ومغناكِ أغاريدُ العصورِ”

مذاهبَ، خرج منها بأنه لا وجهَ لاستعمالي هذه الكلمة في هذا المقام.

أمّا أنا فأقول بأنَّ كلمة “مغنى” ـ كما وردتْ في البيت ـ إنَّما قصدتُ منها المنزل؛ وليس المنزل مجرَّداً عُرياناً، أو “الموضع الذي كان به أهلوه” ولكنه المنزل الذي تدلُّ عليه كلمة مغنى نفسها. وأظنُّ أنَّ الأديب الفاضل معي ومع المرحوم أمير البيان الأرسلاني حينما وجَّه هذه اللفظة ـ مغنى ـ توجيهاً خاصّاً خرج منه إلى أنَّها منزل الأُنْس والطّرب والهناءة والسَّمَر، وهي اختصار السّامر، وعلى هذا يكون المعنى الذي رميتُ إليه: أنَّ مغناها ـ وهو موطن سَمَر شهرزاد وأُنْسِها ـ أصبح أغرودةً من أغاريد الزّمن، يُلهم الشعراء ويوحي للكتّاب؛ إذ لا وجهَ للقول مطلقاً بأنَّ مغنى شهرزاد (بمعنى غناء) قد أصبح غناء العصور … إذ يركُّ المعنى ويسفُّ؛ فما كانت شهرزاد تُغنّي أصلاً، وليس غناؤها هو الذي يدوّي في أجواء العصور، وإنَّما الذي يدوّي إنَّما هو سامرُها وأصداء ذاك السّامر!

2- واعترض الناقد الفاضل على البيت التالي:

” ونداماكِ عشيقٌ فاترُ اللَّحظِ الكسيرِ”

بقوله: كان الصّواب أن يقول: ونديمُك عشيقٌ أي أن يأتي بالمُفرد دون الجمع!

وواضحٌ هنا شيءٌ من الإبهام لدى الأخّ الناقد. لأنني عنيتُ تماماً اتجاهي عندما قلتُ ” ونداماك عشيقٌ……” لأنَّ الأبيات السابقة توضّح هذا الاتّجاه؛ إذ قلتُ:

                                                                ولـيـاليــك غـرامٌ بين أحـضـان الدهـــور

                                                                كأسُك الفنُّ. ومغناكِ أغاريدُ العصور

                                                                ونــداماك عشيـــقٌ فاترُ اللَّحظِ الكسير

فتلك الليالي، وتلك الكأس، وذاك السّامر بحاجةٍ إلى ندامى لا إلى نديم .. وقد جُمع أولئك النّدامى فكانوا ذاك العشيق” شهريار” الفاتر اللَّحظ الكسير! وواضحٌ أنَّ اللغة تقرُّني على ما ذهبتُ إليه، تأويلاً ” كلُّ نداماكِ عشيقٌ…” ودون تأويل أيضاً!

3- وأخذ عليَّ حضرة الأخ النّاقد قولي:

” ورواهُ الدهرُ فاستلقاه خفّاقي وثارا”

ذهاباً منه إلى أنَّ “استلقى” إنَّما هي من “استلقى على قفاه ـ ولا معنى لها هنا”.

وأنا معه حقّاً فيما إذا كانت استلقى بالمعنى الذي ذهب إليه. ولكنَّ اللغة وحدها هي التي تقول بأنَّ الاستفتاح بالسّين والتّاء إنَّما للدلالة على الطّلب؛ قياساً على قولنا “رضيَ واسترضى ، بكى واستبكى، غنيَ واستغنى … لقيَ واستلقى … إلخ..” ومن هذه الزاوية القياسيّة الصحيحة يتَّضح أنني كنتُ على صوابٍ في هذا الاستعمال.

4 – أمّا المأخذ الأخير حول “السُّمار حيرى”: فوجهة نظري أنَّ كلَّ جمعٍ مؤنَّثٌ؛ فعاملتُ الجمعَ معاملة المفرد المؤنَّث.

وإنني في الختام أشكر للأخ الغالي هذه الفرصة التي جمعتني وإيّاه لنتعارف على صفحات ” الرّسالة” الأمّ! وأنعِمْ به من تعارف، وأعظِمْ بها من رسالة تؤدّيها “الرّسالة” .

                                                                                                                                                               زهير ميرزا

 

أصل المقال:

مآخذ أربعة: بقلم سامي حسين حبش

في عدد الرسالة الغراء رقم (813) قصيدة للشاعر الملهم زهير ميرزا بعنوان (شهرزاد) وهي قصيدة منورة ماتعة، وقد ازدانت كالعروس الحسناء برواء بديع لولا هذه المغامز: قال الشاعر:

1- كأسك الفن ومغناك أغاريد العصور). والمغنى مقصوراً واحد المغاني وهي المواضع التي كان بها أهلوها. وأغنيت عنك (مغنى) فلان و (مغناة) بضم الميم وفتحها فيهما: أي أجزأت عنك مُجزأه.

وما أظن الشاعر قصد كلا المغنيين إذ لا يكون المنزل أغاريد العصور بله أن يجزأ عنه مجزأه. وأظن الشاعر حسب (المغنى) من الغناء كما يقول بيرم التونسي على لسان أم كلثوم. المغنى حياة الروح يسمعها الحبيب تشفيه ولا وجه له.

2 ـ “ونداماك عشيق فاتر اللحظ الكسير”.

والندامى جمع ندمان. ذكر الشاعر أولئك الندامى ولم يذكر منهم سوى ذلك العشيق، وكان الصواب أن يقول: ونديمك أوندمانك عشيق فاتر اللحظ الكسير أن يأتي بالمفرد دون الجمع.

3 ـ “ورواه الدهر فاستلقاه خفّاقى وثارا”.

واستلقى: على قفاه ولا معنى له هنا، والصواب أن يقول: وتلقَّاه خفاقى وثارا، أي استقبله. ومنه قوله تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم) أي يأخذ بعض عن بعض.

 4 ـ “يرقبك السمار حيرى والمساء.”

والصواب أن يقول: يرقبك السمار حيارى بالضم والفتح جمع حيران. أما حيرى فهي للمفرد المؤنث.

وكنا نودُّ أن نضرب صفحاً ونسبل ستراً على هذه المآخذ اللغوية لولا أن مكانة الشاعر الذي أتحف قرّاء (الأديب) بروائعه أعلى من هذه الهنّات. وللشاعر شكري؛ إذ إن هذه الغميزة لا تحطُّ من قيمة هذه (الشهرزادية الرنّان)

مجلة الرسالة – العدد 819 – البريد الأدبي

makhaz2
makhaz1

رسالة إلى:  الدكتور “أمين رُوَيحة”

دمشق، يوم الخميس ليلاً
1947/8/7

سيّدي الفاضل الدكتور أمين بِك!

أبدأ برفع آيات الإجلال والاحترام لرجل الإنسانيّة أولاً، والوطنيّة والتضحية ثانياً وثالثاً.

عرفتُك، يا سيّدي، معرفة الفِكْر والقَلَم قبل أن أتعرَّف عليك آمِراً ضمن حدود الآمر والمأمور. والتقينا على صفحات مجلَّة “اليقظة العربيّة” حُرَّين طليقين من إسار الكلفة، قبل أن نلتقي في حدود الوظيفة الضيّقة. فكنتَ مني كاتباً ـ وكما أنتَ الآن ـ مثار الإعجاب وهدف التقدير والاحترام، لِما نمَّ عنه مقالُك في “اليقظة العربيّة”، ولِما دلَّتْ عليه تصرفاتك وأنت على رأس الوظيفة.

وأشهدُ أنَّ معرفتي الأولى بكَ كانت أكثر حريَّةً، لأنّها في حدود الفكر المُطلَق الحُرِّ في الفضاء الواسع اللامحدود؛

وأشهدُ بالتالي أنَّ المعرفة اللاحقة كان فيها كثير من اخشوشان الواقع ومحدوديته وضيق أفقه، بل انعدام هذا الأفق!

على أنَّكَ في حَالَيْ: الأديب المُفكِّر، والآمِر المُدبِّر، كنتَ مني ـ كما أشرتُ سابقاً ـ مثار الإعجاب وموطن التقدير، سوى هذه الحدود التي فرضَها لَوْنانِ من ألوان التفكير:

فأما اللَّون الأوَّل: فهو حُكْم الآمر على المأمور.

وأما الثاني: فهو هذه الحدود التي أقاموها بيني وبينك؛ إذ زعموا لك أنني من “حزبٍ” لا يوالي “حزبك”، ومن “دائرةٍ” ليستْ من “دائرتك”؛ كأنَّما – بزعمِهم ـ أنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون إلاّ أحد اثنين: إمّا عليكَ، وإمّا معكَ!

وكان من نتاج هذين الأمرين انفصالُ وانقطاعُ روحَين وجسدين، بل أتعدَّى ذاك فأقول: لقد كان من نتاج الواقع نفورٌ إنْ لمْ أقلْ كراهيةٌ لي:

ولستُ هنا بسبيل مناقشة ما صار إليه هذا الواقع؛ بل لستُ هنا حتى أدافع عن نفسي ـ ولا محلَّ لذلك-، ولكنني هنا أريد أن أعود بك إلى جوِّ الفكر المُطلق الذي كنَّا فيه معاً ـ مع الاحتفاظ بفروق المكانة والقَدْر اللَّذَين تتمتَّع بهما أبداً ـ ، وأريد أن أعود إلى الجوِّ اللامحدود لأحادثك على أنني لا أزال أتمتَّع بمكانتي من نفسك، لنضع الأمور في نصابها.

                                                                                                                         *****

أرجو أن تثق يا سيّدي الدّكتور أنني إنسانٌ يختلف عن الأناسيِّ الذين عرفتَهم، أو الذين كان لك بهم صلة قريبة أو بعيدة .

فإذا كان النَّاس في كلِّ جيلٍ وكلِّ عصْر، وكلِّ زمانٍ ومكان، لا يمكن أن يكونوا إلّا متطرّفين، يتمتَّعون بصفة واحدة هي: إمّا معك وإمّا عليك، فإنني أريد أن ينعدم الشكُّ لديك وينقطع، ليحلَّ محلّه رأيٌ واحدٌ فيَّ: هو أنني إنسانٌ وضع واقعه على راحته، وسار به ينادي عليه جِهاراً، وبشكلٍ صريحٍ لا مواربةَ فيه ولا لبْس.

وقد مُنيت، بسبب ذلك، بكثيرٍ من المشقَّة والتَّعب الجسديّ والرُّوحيّ، حتى غدوتُ ولا صديقَ لي، وأصبحتُ ولا قريبَ منّي: انعزاليٌّ بكلِّ معنى هذه الكلمة.

وقد يتبادر إلى ذهنك هذا السُّؤال: فيمَ هذه المقدّمة، ولمَ هذه الإطالة.

إلّا أنني أرجو أن تتمِّم قراءة هذا الكتاب، لأن ما أستطيع أن أقوله هنا لا يسمح لي الواقع الذي تعيش فيه أنتَ أن أقوله أمامك مباشرةً. ولأنّ القراءة المنفردة فيها من التأمُّل والتجرُّد أكثر ممّا يُحيط عادةً بمثل هذه المحادثات إنْ دارتْ وجهاً لوجه!

كنتُ أقول: أريد أن تثق بأنني إنسانٌ مجرَّدٌ، لا يمكن أنْ أكون أحد ذينك الإنسانين اللَّذين حدَّثتك عنهما آنفاً؛ مُوالياً أو مُعادياً. وإنَّما في جبلَّتي أني مؤمنٌ بهذا الذي يدعونه المثَل الأعلى، ومؤمنٌ بالتالي أنني مثاليٌّ، أضحّي بسعادتي، بلْ بكلِّ شيء، في سبيل إرضاء هذه المثاليّة مهما كان أو يكون الثّمن.

                                                                                                               *****

لئن أقاموا ـ أو أُقيمتْ ـ بينك وبيني الحواجز بدعوى أنني من “حزب” غير “حزبك”؛ فإنَّ هذه الدَّعوى باطلةٌ من أساسها؛ لأنني ـ والله ـ لو وجدتُ الخللَ في معبودي لأنكرتُ عليه معبوديته!

ليسَ هذا من قبيل الطَّعْنِ بأحد، أو استجداء رضاء أحدٍ مطلقاً، ولكنَّه وضعُ النّقاط على الحروف، للوصول إلى الغاية المنشودة من كتابي هذا إليك!

والآن، سأواجهُ الموضوعَ مباشرةً:

إنَّ ما نعرفُه، ويعرفُه الشَّباب السُّوريّ ـ وغير السُّوريّ، الواعي، أنَّ الدكتور “أمين روَيحة” هو مثالُ الرجل الإنسانيّ والوطنيّ والمضحّي الذي كان في طليعة المناضلين ضدّ المستعمر.

وإنّي لأذكرُ، بالمناسبة، أنه لمَّا أُقيمَ احتفالُ احتفاءٍ بعودة المجاهد الكبير “القاوقجي” على مدرَّج الجامعة السُّوريّة منذ شهورٍ خلَتْ، وتكلمّ في ذاك الحفل، المجاهد “عادل أرسلان”، متحدّثاً عن الثورة السُّوريّة، وحين أخذ يُسهِبُ في وصف ما لاقاه مع إخوانه، ثم أخذ يُمهِّد للحديث عن الطبيب الوحيد الذي كان في طليعة المناضلين، والذين تُذكر أسماؤهم بالفخر .. كان كلُّنا ـ بشبهِ إجماعٍ ـ مؤكّدين أنَّ اسم ذلك المجاهد لن يكون سوى “أمين رويحة” .. فما إنْ فاهَ بالاسم حتى دوَّى المكان بعاصفةٍ من التَّصفيق الحادّ!

أيصحُّ لمثل هذا الماضي النقيِّ الطاهر المُشَرِّف أن يكون يوماً ما فيه مجالٌ ـ صغيرٌ أو كبيرـ يصحُّ أنْ تتَّخذ منه الأعادي والمغرِضون – وهم كُثُر- عناصر لحديثٍ يمسُّ قدسيَّة الماضي؟

إنَّ الرَّجل المثاليّ لَيقولُ في مثل هذا الموطن: إنّ ذاك الماضي يُفدى بذراع!

وإنَّ ذاك الماضي ليصحُّ أن يكون حاضرُه فوق الشُّبهات! وإنَّ ذاك الماضي ـ لندرةِ مَنْ يتمتَّع بمثله – ليُفتدى بالغالي والنفيس!

يا سيّدي الدّكتور ..

هل أقول: إنَّه بدأتْ تكون لدى الأعادي “مشاريع ” عناصر؟!!!!

أخشى ـ إنْ أنا أطلتُ ـ أن أوصَف بالإسراف في القول، والإسراف في تعريف الواقع! بل وأخشى أن  أتَّهمَ بالإغراض والإغراق في تحميل الحوادث أكثر مما هي عليه!

إذا كانت آفة الأخبار رُواتُها، فإنَّما آفة الرّجال العظام بطانتُهم!

إنَّ جميع أو أكثريّة الناس لا يمكن أن تتّصل بك مباشرة ً لتعرف مَنْ أنت من قريبٍ أو بعيد.

وإنّما يُعرَف المرء من المقرَّبين إليه؛ فهم الذين يتحدَّثون عنك؛ وهم الذين يعرِّفون الناس عليك، ومنهم ـ لا منك ـ تُعرَفُ مَنْ أنت.

فإذا ساءتْ تصرُّفاتهم، فإنما يعود ذلك عليك؛ وإن حَسُنتْ تلك التصرُّفات فإنما يعود ذلك عليك أيضاً!

يا سيّدي الدّكتور

إذا كان الإنسانُ صغيراً بنفسه عاش كالنباتات الفضوليّة أو الطفيليّة التي تستمدُّ قيمتها من الذي علِقتْ عليه! فلا يُهَمُّها إذا حَسُنَ مستقبله أم ساء، لأنها واجدةٌ في كلِّ حين من تعيش على هامشه.

وإذا كان الإنسان كبيراً بنفسه؛ كان من الواجب عليه أن يعرف أولئك الذين يعيشون في كَنَفه! فلكمْ هدمَ كبيراً صغيرٌ، وذلك لعدم اكتراث الكبير بالصغير. وإنما مُستكبَرُ النار من مُستصغَرِ الشَّرر!

يا سيّدي الدّكتور

إذا عاشوا أو ماتوا ـ أدبياً أو اجتماعياً أو مالياً ـ فسيّان عندهم.

أمَّا نحنُ فنريدُك كما عرفناك: عائشٌ أبداً، قويٌّ أبداً، عظيمٌ أبداً!

يا سيّدي الدّكتور

إنَّ دولتَهم لآنٍ! وإنَّ دولتَك للزَّمان!

كنتَ – كما عرفنا- أبداً حُرّاً، فما الذي قيَّدك؟!

إنَّ التاريخ لن يتحدَّث عنهم لأنهم أتفه من أن يحتلّوا سطراً في كتابه؛ ولكنّ التاريخ لن يتحدَّث إلاّ عنك!

فهل سيسألُك عنهم، أو سيسألُك عن نفسك؟

إنهم إنْ أساءوا؛ فَلِاتّصالِهمْ بك يعود ذلك عليك. وإنْ أحسنتَ ـ ولم يُحسنوا- عاد ذاك عليهم واستغلُّوه!

إنَّ الرَّجل العظيم ،أكبر من الحوادث الصغيرة. وإنَّ الرَّجل الصغير، من الحوادث الصغيرة نفسها!

                                                                                                                                                            زهير ميرزا

رسالة إلى “عادل الغضبان”

زهير ميرزا – دمشق 

1945/11/8

أخي الأستاذ الفاضل عادل الغضبان

تحية وبعد.

أرجو ألّا تضيق مجلة “الكتاب” الغرّاء بمثل هذا النقد البريء. وأرجو ألّا يفُتَّ في عضُدِها سطوةُ المكتوب عنه وطولُ باعِه في الأدب بالنسبة إلى الكاتب. فنحن لم نكنْ، ولن نكونَ، إلّا في معرِض سَوق الأدب للأدب والنقد لتلافي مزالق القلم والفِكْر اتّجاهاً إلى أدبٍ أسمى وفِكْرٍ أبقى على الدّهر. والله من وراء القصد.

                                                                                                                                                                               المُخلِص “زهير” 

                                                     ********

تلقَّفنا العدد الأوّل من مجلّة “الكتاب” الناشئة. وما إن أنفقنا بعضاً من الوقت في مطالعة ما اختاره أدباؤنا لكتابة الحواشي على الجوهر حتى أيقنّا بأنَّ ما ذهب إليه (أبو تمّام) ينطبق على هذا العمل الأدبي الرّاقي. 

نحن كثيراً ما نطالع للأديب الشّيخ الأستاذ الكبير “عبّاس محمود العقّاد”ـ إنْ على صفحات “الرّسالة “طوراً وإنْ على صفحات مجلّة “الإثنين” و “الهلال” وغيرهما وغيرهما ـ فنقف عند الذي يكتبه وقفة الحَيْران الضّائع الاتّجاه الذي يصافح هذه الألوان المتباينة من مكتوبات هذا الأديب المُفكِّر؛ فما نملكُ دَفْعاً لشكٍّ وما نملكُ سُبُلاً ليقين؛ فهو حيناً فيلسوفٌ أو في طريق الفلسفة، وهو حيناً عالِمٌ متأثِّر خُطى العُلَماء، وهو حيناً آخذٌ بنصيبٍ من الشِّعر، وهو بعد هذا وذاك مُنتِجُ “عبقريّاتٍ” ومحلِّلُ شخصياتٍ لها قيمتُها لا شكَّ. 

وهو مؤرِّخٌ وكاتبُ مَقالة، وهو قبل كلّ هذا وبعد كلّ ذاك نقّادةٌ عميق؛ إنْ أمسك بقلم النقد حقَّ لنا أن نهتف معه “ليتني أحطِّمُ إلّا قلماً واحداً”. هو قلم النقد؛ فكنّا في جميع ما نطالع له لا نقف وقفةَ متدبِّرٍ طُلَعةٍ لعِلمِنا بأنَّ هذا قَطْرٌ من غيثٍ سوف ينهمر. والغيثُ المنهمرُ هو هنا “إنتاجُه” الشّخصيّ الذي يوم يُعرَض الناسُ صفّاً صفّاً سيحتمل كلٌّ نتاجَه ومحصولَ بَيدره بيمينه، واقتباسه وترجماته بشماله، فما يُغنيه ما في شماله “إن لم يسىء إليه” إنْ كان مَسَخَ أو صَدَقَ. ويُغنيه ما في يمينه “إنْ لم يحسنْ إليه” إنْ كان أفاد جيلاً أو بعضه أو وجَّه خُطى إنسانٍ واحدٍ. 

كنت أقول كنّا ونحن نُطالع ما يَعرضُ علينا أستاذنا الشيخ ننتظر أبداً الغيث. فدواوينه ومنظوماته قطْرٌ و”ابن روميّة” قطْرٌ، و”عبقريّاته” و”هتلره” و”قمبيزُ في ميزانه” و”سارته” و”فرانسيس باكونه” و”عرائسه وشياطينه” و”هذه امرأته” وما إلى هنالك قَطْرٌ. وإنْ كنّا في الحقيقة شِمْنا أوّل الغيث في “مُطالعاته” فنحن أبداً ظِماءٌ إلى الغيث المتواصل المنهمر الذي يُليّنُ من قساوة التّربة ويُنبتُ الأرضَ بعد جَدْبها ويسكبُ عليها فيضاً من الرّبيع الأخضر البهيج. وما نظنُّ أن انتظارنا سيطول.   

adel_ghadban

رسالة إلى ومن “روحي فيصل”

 رسالة إلى “روحي فيصل”

بيروت  1954/11/23

1374/3/27

         عزيزي الأستاذ روحي، رعاه الله،

اليوم قرأت ذاك الكلام الطويل العريض المنتهي بتوقيعك، وكنت أرجو مُخلصاً أن تصرف طاقتك الكتابية المبدعة في غير هذا الكدِّ الأجوف وغير هذا النَّصَب المُضني الذي لا محصول وراءه. فما أنت بناقدٍ فيما كتبتَ ـ على جلال الكتابة ومكانة الكاتب ـ، ولا أنت بمؤلِّفٍ ولا بمُلَخِّصٍ، وأحسبُكَ كنت كذاك الطفل البريء العابث الذي أحبَّ والداه أن يشجِّعاه على الحركة – وقد لحظا بطء حركته – فأوعزا إليه أن يبني قصوراً من الرِّمال الناعمة على الشاطئ السّاجي .. فبنى ولكنه البناء الذي ليس وراءه شيء اذ ما هو في الأصل من شيء…

وكنت أودُّ من أعماقي أن أرى لك غير هذا الذي كتبتَ، فأنا عالمٌ بالنَّصَب الذي نالك من مطالعةٍ وتمحيصِ ما ليس بجديرٍ بالمُطالعة والتّمحيص، وهي بالتالي مقالاتٌ وقصائد وأقاصيص عددٍ كاملٍ من مجلّة سيّارة، وأكثر ذاك المكتوب لم يكن ليستوقفك قليلاً أو كثيراً، ولكنك رأيتَ نفسك مُلزَماً بمطالعته مُطالعةً واعيةً رصينة، ثم وجدتَ نفسك بالتالي مُكرهاً على أن تكتب فيه، كأنما هو شيءٌ جديرٌ بأن يبقي لديك بعض الانطباعات الموجِبة للكتابة، كأنما هي آثارٌ (موحية) ما تكاد تترك مطالعتَها حتى تجدَ نفسَك وقد استغرقتْ في المجهول تحاول أن تلملم نفسَك لتخُطَّ ماعرض لك خطوطاً على القرطاس إعجاباً أو نقداً.

… وإنَّما نكتب في الآثار التي تترك في نفسنا خطّاً واضحاً من الإعجاب، أو تُخلِّف خطّاً عميقاً من التأثير الشعوريّ. ألستَ ترى هذا الذي أرى؟ إذن ما بالك تمرَّدتَ على طبيعتك الهيّنة اللّينة المُبدعة وانطلقتَ تُجيب طلب مَنْ رغب إليك أن تكتب في (العدد) الماضي من الآداب ؟؟؟ كأنَّما الكتابة في “العدد الماضي من الآداب” أدبٌ أو فيها شيءٌ من الأدب ـ دون توريةٍ طبعا -؟

أحسبُ ـ والله أعلم ـ أنك قد انسَقتَ إلى ذلك بعاملين اثنين، أوَّلهما أن في تلك الدعوة “إكراهاً” لك على الكتابة ـ وأنت المُقِلُّ ـ، وثانيهما أنَّها تجْعلكَ وجهاً لوجه أمام قرّاءٍ أكثرهم لا يعرفُك ـ لمرور الزمن وتقاعسك عن الاهتمام بالواجبات الأدبية الكبرى المُلقاة على عاتقك ـ فإذا كان في الشقِّ الأوّل ما يشفع لك فإنَّ في الشقِّ الثاني ما لا يشفع لك ..

.. أفتظنُّني أقف منك موقف الواعظ أو موقف المُوجِّه؟ أعوذ بالله إلّا إذا كان التلميذ يعلوعلى أستاذه أو في الدّقيق من التعبير “يتطاول” عليه .. وما أعتقد أنك جرَّبتَ عليَّ شيئاً من هذا أبداً، وكلُّ ما هنالك أنني وصلتُ بيروت اليوم في أعمالٍ خاصَّةٍ فوجدتُ عدد “الآداب” الأخير في أيدي الباعة، فاقتنيتُه وجلستُ في ركنٍ منزوٍ من مكتبي أطالعه حتى وقعتُ على اسمك، فوجدتني أندفع لقراءة ما خططتَه بنفسِ مَشوقٍ ورغبةٍ جارفة، كأنني ذاك الظامئ الذي هَمَت السماء عليه قطَراتٍ فحاول ابتلاع كلِّ قطرة بشغفٍ ونَهَم، فكنتَ ترى في وجهي المعبِّر صوراً مُتباينةَ التأثير والتلوين؛ فتارةً أنا راضٍ مُشرقُ الوجه والنفس، وتارةً أنا ذاك المُتجهِّم الذي يريد لو (يأكل) هذا المكتوب ويعلكه بين أضراسه علكاً، وتارةً أقفُ موقف الحائر من هذا الذي أراه فأراك أمامي وقد جهِدْتَ الجهد كلَّه، وتصبَّب العرَق بارداً من جبهتك وأنتَ تحاول أن تركِّز كلماتك كلمةً كلمة لتكون في موضعها من أختها أوَّلاً ومن الفكرة ثانياً، وأكادُ أكون أعلمَ الناس ـ ولا فخر ـ بقيمة موقع اللَّفظة من مخطوطاتك، لذا فإنَّه من اليسير عليّ بالذّات أن أقرِّر مدى النصَب الذي نالك من كتابة هذه الصفحات التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع ـ كما يقولون ـ .

… وما كان أغناكَ عن كتابة هذا الذي كتبتَ، ولو خطَطتَ لنا فصلاً في النَّقد، أو لو أمسكتَ بمنظومِ ذاك العدد ـ وحده ـ وجعلته تحت مِبْضعك إذن لقرأنا لك نثراً ممتازاً فكرةً وأسلوباً .. أمّا أنْ تُبعثر نفسك وقلمك وفكرك بين قصَّةٍ ومقالةٍ وملخَّصٍ ومقطوعةٍ، وتأتي بهذا الذي أتيتَ به إرضاءً لرغبة الذين كلَّفوك هذا التكليف فهذا ما لا نرتضيه لك؛ لأنَّه من حيث المحصول جفاءٌ، وما فيه ما هو نافعٌ يمكثُ في الأرض.

… على أنَّك وقد ارتضيتَ أن تكتب في غير هواك .. فقد ارتضيتُ أنا أن أكتب لك لأقول لك رأيي فيما كتبتَ، وإنْ كنتُ على يقينٍ من أنَّك غاضبٌ عليَّ الآنَ وأنت تُطالع هذه الأسطر … ولكنَّ غضبَك قريبٌ إلى قلبي فقد ألفتُه، ورضاك بعيدٌ عن قلبي وما رغبتُه نظراً لشُحِّك وبُخلك في المديح والإطراء، وما أغنى الأديب الطُّلَعة عن أن ينثر منثوره في مديحٍ لا طائل تحته أو نقدٍ لا طحينَ معه ؟؟!!!!!

أمّا التمهيد الذي مهَّدتَ به لكلمتِك فعلى نوعين: أوّلهما وهو القسم الأوّل جيدٌ جدّاً، وأمّا الثاني وهو الوجه الآخر الذي تعرَّضتَ له فهو ـ وعفواً منك ـ مُتهالكٌ جدّاً، ولم يكن لك أن تُشير إليه من قريبٍ أو بعيد … وأحسبُ أنَّ خير ما أذكره لك كرأيّ في هذا المقام ذاك التعقيب الذي لاحقك به سهيل إدريس بتوقيع “الآداب”، وإن كنتُ أرى شخصيّاً أنَّه (هاجمَك) أكثر ممّا أحبَّ أن يُعقِّب على كلمتك لردِّ اّلأشياء إلى أصولها.

أمّا كلمتُك في كلمة رئيف الخوري فأحسبُ أنَّ للصداقة التي بينكما بعض الأثر في توجيه كلمتك، ولم تحبّ أنت أن تسرع في رئيف الخوري لتهاجمه .. إذ مَنْ يبقى لك بعده لتُثني عليه؟؟ و كلِمتُه ـ في الأصل ـ عاديّة جدّاً، وفيها من تفاهة الأسلوب وضعف ارتباط الجُمَل ما هو غنيّ عن البيان، ولكن لفتتَك إلى كلمة (عبر النفس) فيها براعة الآلة المصوِّرة الحسّاسة التي وقعت على (أسمن) ما في المقال.

ثمَّ ما كدتَ تجوز كلمة رئيف الخوري حتى وقعتَ على المسكين رجاء النقّاش فنقشتَ في صفحة قلبه حُفَراً وأخاديدَ ما أحسبُ أنَّه يمكن طمرها ولو بعد حين … فماذا فعل لك ذاك المسكين حتى صببتَ عليه جامَ غضبك؟ وماذا جنى حتى تجني عليه بمثل هذه الكلمات توزعها توزيعاً فيه كثيرٌ من الكرم، وقد كان من حقِّها أن يكون في توزيعها كثيرٌ من البخل نظراً لأهميّة كلٍّ منها على حدة (يغرب) ( وهذا كلامٌ لا معنى له) (ولا يقوله باحث)  (ابتُلي بها الكاتب) (جنت عليه بهذا النقص المعيب) …..

وماذا فعلتْ لك بعد ذلك دار اليقظة العربيّة حتى تحشرها في مجال مهاجمة “النقَّاش”؟ هل كانت هي هدف نقمتك فجاء العاثر الحظِّ “النقَّاش” في الطريق فاكتسحته عملاً بقول شوقي: (ماتَ مَنْ في طُرُقاتِ السَّيلِ ناما)؟

وتقول: “فليس كلُّ نقدٍ غربيٍّ أو كلُّ أدَبٍ غربيٍّ مفيداً لنا. وما أجدر المترجمين أن يفهموا هذه الحقيقة البسيطة، لا سيَّما الذين يترجمون لدار اليقظة العربيّة بدمشق”.. الله الله يا روحي … أفأنتَ الذي يقول هذا القول وهو في تمام صدقه ويقينه؟ وما قيمة لفظة (مفيد) في كلمتك؟ وما قصدك من إيراد (الفائدة) و(الاستفادة) في مقام إدراج اسم دار اليقظة العربيّة؟ أفحَسِبْتَ أَّنَّ الفائدة هي ما يتراءى لك وحدك أنَّه فائدة؟ أم حَسِبْتَ أنَّ لفظ الفائدة يعني في هذا المجال ( تقويم الأدب المُعاصر) وعلينا بالتالي أن ننقل الآثار الغربيّة لـ (نستفيد) من أسلوبها أو أفكارها أو ترابطها وما اتّصل بذلك؟ ألستَ على علمٍ بأنَّ النّاشر لا يخضع لمثل هذا الذي ترمي إليه؟ وأنَّ الذين يُترجِمون بصورةٍ عامّة ـ لدار اليقظة العربيّة أو لغير دار اليقظة العربيّة أو لأنفسهم ـ إنَّما يترجمون استجابةً لانطباع الأثر المُترجَم في نفوسهم؟ أيقوى أحدٌ على إكراهك على ترجمة ما لا تتحسَّس به؟ وما هو مقياس هذا التحسُّس؟ هل هو(الفائدة)، إذن ما فائدة ترجمتك أنت لمسرحية (برليوز) ؟؟؟؟ هل هناك أيَّة فائدةٍ من نقلها إلى اللغة العربيّة! إلّا أنَّها أثَرٌ وجد في نفسك هوىً وعلى صفحة قلبك انطباعاً فانسَقْتَ إلى ترجمته بدافع (الاستجابة) لتلك المتعة الخاصَّة التي أوجدتها بنفسك القراءة الأولى لذاك الأثر .. أمّا الشقُّ الآخر من الفائدة وهو الفائدة الماديّة؛ فعليك ألّا توعز إلى المترجمين أن يهتَّموا بهذا الذي دعوتَهم للاهتمام به بقدر ما تنظر إلى ذاك أو تلك (البالوعة) المُخيفة التي يسمُّونها (التيراج) فهي وحدها التي تفرِض على النّاشر (لون الترجمات)، وهي التي تستدعي المترجِم ـ استجابةً لرغبة الناشرـ أن يهتمَّ بهذا النَّسق من الكتُب أو ذاك …… ومن هنا يتضِّحُ لي أنَّك لم تكن شديد التحديد يوم استهلكتَ لفظة (المفيد) في هذا المجال، فأصبتَ دار اليقظة بما كنت أرجو لو لم تُصِبْها به، ولا عبرة بقولك أنَّك أردتَ “(المترجمين) لدار اليقظة العربيّة” فليس من وجودٍ للمترجمين المذكورين إلّا من خلال الدار نفسها.

أمّا كلمتُك في عبد الله عبد الدائم فقد دُرْتَ في حلقة مُفرغة (عن قصدٍ وسابق تصوُّرٍ وتصميم، لا شكَّ في ذلك ولا رَيْب) بحيث لا يدري القارئ أأردْتَ به خيراً أم أردْتَ به شرّاً؟؟؟ وواقع الأمر بالنّسبة إليَّ أنَّك أردتَ به شرّاً في إطارٍ حاولتَ جهد المستطاع ألّا ينمَّ عن الشرِّ الكامن، ولم تستطع أن تخفي ما بنفسك طويلاً لأنَّه أفلتتْ منك كلماتٌ تدلُّ على ذلك كقولك بشيءٍ كثيرٍ من التهذيب (بقي أن أقول إنَّ جانب النقد للمذهب الوجوديّ قد جاء “مُرتجَلاً لا يفي بالمرام …..) وقد ظهرت براعتُكَ في التغطية ـ على أسلوب العسكريين ـ عندما أفرغت إناء مديحك على الكتاب المترجَم ـ الذي تعترف أنت أنَّك لم تُطالعه ـ ومع هذا فقد ارتضيتَ أن تمدح المترجِم بألفاظٍ فيها شمول، كقولك: (… ولكنني لا أشكُّ في أنَّ يد المترجِم  سوف  تكون سابغة الفضل على الشباب …) سامحك الله يا روحي، فلقد ظلمتَ عبد الله وظلمتَ في آنٍ معاً سهيل إدريس الذي أثنيتَ عليه بما لم تقرأ له…..؟!!!!!!!!

ـ ملاحظاتُك على أقصوصة (عرق) طيّبة ،وأكاد أقول جدّاً.

ـ أمّا ملاحظاتُك على (المحاولات الشعريّة التي نظمَها …… فدلَّ بها على ألمعيَّةٍ وليدة ….) فحسبُكَ أن يكون استهلال الكلمة هذا الاستهلال حتى تعرف مدى ما تنطوي عليه الكلمة من تشجيعٍ لطيفٍ في حدودٍ مرسومة، فشعرُهم (محاولات) وهو بالتالي (نظْمٌ) ، وفيه ألمعيّة ولكنها (وليدة) . أتُرى هذا الوليد حبَا أمْ لمْ يحبُ بعد ؟؟؟

أمّا المسكين الثاني في كلمتك ـ بعد المسكين الأوَّل رجاء النقّاش ـ فهو الدكتور أبو شادي فقد تركته كما تركتَ الأوّل، ذاك نقشتَ في قلبه الحسرة على أدبه الذي ضاعَ على شباةِ قلمك، وهذا ستتركه يشدو لحناً حزيناً على أيّامه و لياليه التي أضاعها في البحث والدراسة والتنقيب حتى جاء بهذا المقال عن (الفوفزم) فجئتَ فجعلتَ منه مُهرِّجاً، منه أي من (المرحوم!!) هنري ماتيس!! ، ولست أدري إنْ كان قد ارتحم قبل كلمتك، أو أنَّه ارتحم على يديك الكريمتين!!!

ولا يفوتني أن أشير إلى أنني قرأتُ بإعجابٍ شديد تشبيهك الفوفزم بقولك (لشدَّ ما يشبهون عندنا المشعوذين المرتزقة الذين يركبون عربةً ويقفون في منتصف الطريق يصيحون بحناجرهم ويلعبون بأيديهم ليلفتوا نظرك إلى دواءٍ صنعوه إكسيراً للحياة)، وما أبرئك ـ يا أستاذ روحي ـ ولكنني أخشى أنك تحاول أن تلمُز من أحدهم بهذا المثال …

وهَبْ أنني حاولتُ أن أثنيَ على كلمتك الموفَّقة في الفوفزم، فهل أنسى أنك أمسكت بتلابيب الدكتور أبي شادي لتقول له (دعْكَ يا دكتور من …)، مسكين ذاك الدكتور الذي اهتمَّ بموضوع الفوفزم الذي أبدعه ذاك الذي يرحمه الله (فقد مات وأنت تكتب هذه الكلمة عن 85 عاماً من التهريج …) ولستُ أدري ماذا حلَّ بالمسكين أبي شادي وهو يرى أنه يتابع خطوات مهرِّجٍ أنفق 85 عاماً من عمره بالتهريج!!!!  لقد قتلتَه، أحياكَ الله.

وفي كلمتك (لينزلوا إلى الشارع) وردتْ خطيئةٌ ـ أستغفر الله ـ بل هي هفوةٌ جرَتْ على الألسنة، إذ قلتَ (ومساهمة ….) والصّواب ( وإسهام …)، إذ الفعل منها (سهم) أو (أسهم) أيْ اشترك، ودعْكَ يا صديقي الأستاذ روحي من أولئك الذين يلوِّحون لك بأفعال المطاوعة …..

أمّا ثالثة الأثافيّ في كلمتك ـ إنْ كان هناك أثفيَّتان سابقتان ـ إعجابك بهذا الذي يقول: (ومِزَقٌ مهرورةٌ من أخي .. من صدره المُرتخي .. يخبئها السنبل والموسم .. عفيفة يخجل منها الدم ..)، أما خجلت من إعجابك بمثل هذا الهذْرِ؟ قد يشفع للقصيدة (روحٌ) تنساب في أثنائها وتتركك تعيشها فكرةً وروحاً وأسلوباً … ولكنْ إيّاك أنْ تقتطع منها أجزاء، لأنَّك إذ ذاك كأنما تُرسل رأساً جميلاً ـ وحده مُنفصلاً عن الجسد ـ لتقول لمَنْ يُحاورك: انظر ما أبدعه؛ وإنما الإبداع والجمال ـ بصورةٍ أدقّ ـ إنما هو روحٌ وجسد، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر لم يعُدْ هناك روحٌ جميلةٌ، ولم يعُدْ هناك بالتالي جسَدٌ جميل.

أم تراك نسيت هذه المبادئ الأولية بعد ما علاك غبار الزمن، ولم تمد يدك لإزاحته بين حين وحين؟؟؟؟

أهذا شِعرٌ يُقرأ: (ومزق مهرورة) ـ سامحه الله ـ، ما أبرع كلمة (مهرورة)، هكذا وحدها دون أن يكون هناك من (السوابق) ما يشفع لإيرادها … ثمَّ … ألا تُسكرُكَ لفظة ( المُرتخي) ؟؟ أمّا أنا فقد ارتختْ مفاصلي وأنا أقرأ إعجابك بهذا الارتخاء الشنيع …..

أمّا إنَّه شعرٌ إنسانيٌّ فهذا ما لا نحاورك فيه، ولكنَّك أخطأت كلَّ الخطأ عندما أوردْتَ أو اقتطعتَ هذا الجزء الجميل في الجسد والقبيح جدّاً عندما انفتل قطعةً لا حياةَ فيها ولا حركة …. وأنا في الأصل لم أقرأ القصيدة برمَّتها، وعندما أعود إلى دمشق خلال هذين اليومين ـ إن شاء الله ـ سأقرأ القصيدة عسى أفهمُها على الوجه الذي فهمتَها أنت عليه ….

أما المسكين الثالث فهو الفقيد إليه تعالى الدكتور عبد العزيز عبد المجيد الذي تفضَّلتَ عليه وعلى كلمته بقولك (وهي أدنى إلى عمل تلميذ بكالوريا منها إلى ….) ولو وقفتَ عند هذا الحدِّ لكان هيّناً ميسوراً على قسوته وجرحه، ولكنك ثبَّتَّ ذاك الكلام القاسي بقولك (وهذا وزنها في الميزان ولا أزيد) …. ليتك زدْتَ ولم تقفْ عند هذا الحدِّ الذي بتر رأس المسكين الثالث…

وكلمتك عن (مات الملك) حاولتَ جهد الإمكان أنت أنْ تُخفِّفَ من حدَّة غضبك عليها فصرفت وجهك شطر المؤلِّف وليس المُترجم الذي هو (….سهيل إدريس …)، ولكنك مع هذا المديح الذي أزجيته إليه في كلمتك عن عبد الله عبد الدائم، وفي هذا التخلُّص عندما واجهته وجهاً لوجه رأيته لا يرحمك ولا يريد أن تنزل بك رحمة ربك، فتراه في التعليق أو التعقيب الأول يهاجمك بشيء من العنف، ولكنه في التعقيب الثاني بتوقيع (س.ا) لا يرحمك مطلقاً بل يردُّ لك الصّاع مئة صاع، بلا رحمة ولا هوادة ولا لين، ولو كان دفاعاً عن نفسه لهان الأمر، ولكنه دافع عن صاحبه، وساق إليك ألفاظاً أقلُّ ما يُقال فيها أنَّها اتّهامٌ لك في قدرتك على (الفَهْم).

هل أنا مخطئٌ في فهمي لكلمته التي ساقها تعقيباًعلى كلمتكَ؟ ألم يكن من حقِّه أن يتريَّث ولا يعقِّب ولا يكتب حتى يكون العدد التالي فتكون المناقشة مناقشة نظيرٍ لنظير في وجهة نظرٍ معيَّنةٍ بدل أن يبعث لك ببطاقةٍ صغيرةٍ لا يدعوك فيها إلى المبارزة،وإنما يمنحك فيها ألفاظاً أدنى ما فيها أقوى مما وجَّهتَه أنت جميعاً لكلِّ المساكين الذين وقعوا تحت يديك؟

حقّاً لقد كانت كلمته في غاية القسوة، وأشهد أنني تألَّمتُ كلَّ الألم لأنه أوردها على هذه الشاكلة، وقد كان يستطيع أن يُشير إلى أنَّه سيردُّ عليك في العدد القادم ويناقشك الرأي، أمّا أن يقول وبكلِّ بساطة كأنَّه يكتب تعقيباً على كلمةٍ لأديبٍ ناشئٍ (يؤسفني أن أقول إنَّ الأستاذ الناقد لم يفهم القصَّة، وأنَّ مغزاها قد فاته تماماً، وأنَّ أحكامه ـ بالتالي ـ خاطئةٌ كلُّها.  وإني أرجوه أن يُعيد قراءتها فلا بُدَّ أن يعرف خطأه …..)

والحقُّ أنَّ هذا الكلام كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً من أديبٍ ناشئٍ ـ ولو كان رئيساً للتحرير ـ إلى أديبٍ معروف مرموقٍ كروحي فيصل. هذا مع العلم أنني معك فيما ذهبتَ إليه من التناقض الوارد في (مات الملك) ـ حسبما أوردتَ من أمثلة ـ، وعلى كلٍّ فإنني سأقرأ الأقصوصة حال وصولي إلى دمشق ـ إن شاء الله ِ وأردُّ عليه إن وجدتُ مجالاً للردِّ ـ هذا إذا أذنتَ لي أنت ـ وإنني بانتظار رأيك في هذا الموضوع.

أمّا بقيَّة كلماتك في (نظرية الفنِّ عند تولستوي) و(النّسر) فإنَّها تدور في فلك كلماتك السابقة، ولم يستوقفني منها إلّا فكرة صغيرة جدّاً أردتَ أن تقولها في الشاروني ثمَّ عدلتَ عن ذلك إذ عُدْتَ إلى مديحه، وهو كما ذكرتَ أديبٌ يستحقُّ التشجيع والاحترام أيضاً.

وبعد، فقد بهرتَ أنفاسي، وأوقعتني فيما وقعتَ فيه أنت، وما أحسبُني إلّا أغضبتُك ويشهد الله أنني ما قصدتُ إلى ذلك ولن أقصد إليه، فلك عليَّ حُرُماتٌ أدناها أنَّك أستاذي الذي أعتزُّ به وأدافع عنه وأنافح دونه، ويكفي أن تسأل سعيد الجزائريّ وصباح قبّاني والدكتور حكمت هاشم لتعلم كيف تلقّيتُ صفَعاتٍ منهم وأنا بسبيل الدّفاع عنك وقتَ رفضتُ أن أقرَّ بأنَّ السيد شاكر مصطفى يُحسن علم الكتابة والقراءة أكثر منك، وضربوني بك يوم قرَّروا أنك أنت الذي (حطّيت له الطاعة) في غرفة سعيد الجزائريّ، فألجموا فمي وكمُّوه، وانصرفتُ عنهم وأنا أشدُّ تأثُّراً منك لأنَّك خلوتَ من الميدان .

والسلام عليك من أخيك المُحبِّ المُريد

زهير ميرزا

عنواني بدمشق (ص ب 268)

 رسالة إلى “روحي فيصل”

محمد روحي فيصل

رئيس فرع الدعاية والأنباء في حمص

حمص 28 ت2 954

الصديق الوفي الأستاذ ميرزا المحترم

لم أغضب لرسالتك كما ظننتَ، بل رضيتُ عنها كلَّ الرّضى.. لقد قرأتُ في سطورها آيات الوفاء،  ولمحتُ دفَقات الصراحة تخطُّ أعمق الملاحظات والمطالعات. وأنا معجبٌ بنشاطك وأدبك، ولولا أنَّ رسالتك خاصّةٌ بي لدفعتُ بها في طريق بيروت لتُنشَر في ( الآداب). ولا ريبَ أنك قد عرفتَ مواضع الخلاف بيني وبين الدكتور سهيل إدريس، كما ستعرفُ خلافاتٍ ومناقشاتٍ أُخَر، وأرجو أن يكون رائدُنا جميعاً خدمةَ الأدب والفِكْر، والقولُ الفصلُ هو لأمثالك من النّقدة المُخلصين.

ماذا صنعتَ في بيروت؟ وهل أنت مُطمئنٌّ إلى عملك؟ وكيف حال العائلة؟ وماذا تُعدُّ من إنتاج؟

إنني أرجو أن أسمع الجواب يوم أصيرُ في دمشق عند أولى زياراتي القادمة لها، وما ذلك ببعيد فيما أعتقد.

واسلم لأخيك الذي يرغب في لقاء الشّخص الوفي والوجه الصّريح.

                                                                                                                                                                                                                               روحي

men_Rohi