الشاعر  بين غَيريته وأنانيته

تطوّر العالم العربي …

حديث عني وعنك …

  أحلام مغترب…

أين نحن

نيرون

أين نحن

أحلام مغترب …

1371/6/23 هـ

ظننتُ يوم يممَّتُ وجهي عن بلدي، وانطلقتُ إلى صحراء الحياة؛ أنني يومذاك فقط، انطلقتُ من إسار المدنية  والمدينةلأستحمَّ في شمس الحياة النقية، وأرتعَ في صحرائها المترامية، واستجمَّ من كلِّ عناء، وأستريحَ من كلِّ شقاء…

وظننتُ يوم وطَّنتُ النفس على الهجرة؛ أنني آنذاك، قد هاجرتُ عن عقائد إلى لا عقائد، وفررتُ من قيود إلى لا قيود، وهربتُ من كلِّ ما ألِفَتْه أبصاري، وما ملَّتْ منه تخيُّلاتي وأفكاري…

وظننتُ يوم قرَّرتُ الاغتراب؛ أنني إنما أغتربُ عن هذا لأقترب من ذاك، أغتربُ عن جوٍّ لآلَفَ جوًّاً آخر أنا لا أعرفه ..  والمرء بطبعه.. ميَّالٌ لكل جديد…

فماذا وجدتُ ؟..

وجدتُ الصحراء تلفحُني بحرارتين؛ هما حرارة الحياة الباردة، وحرارة الشوق المتَّقدة ..

فهربتُ من الصحراء لأنني إنما انطلقتُ من بلدي فراراً من حرارة الحياة الباردة …

ووجدتُ أنَّ العقائد التي هاجرتُ عنها، والقيود التي فررتُ منها، والمألوفات التي سئمتُها، والتخيُّلات الرتيبة التي مللتُها؛ إنما هي تجري مجرى الدماء في عروقي .. فلما وصلتُ الصحراء، تلفتُّ أسألُ عن عقيدة، وأستطلعُ لفعلي قيودَه، وراح نظري يفتش عبثاً عمَّا يسأم، وانطلق خاطري يبحثُ دون جدوى عمَّا يملّ، فما وجدتُ العقيدة التي أفتقدُها إلاَّ أشلاء عقائدي التي هاجرتُ عنها، وما لقيتُ القيود الجميلة الحبيبة التي كانت تُغِلُّ حُريَّتي الخضيدة، وما عثرتُ على منظر أنساهُ، ولا خاطرة أملُّها … فقد كنتُ أدور في حلقة واحدة؛ كلها تقولُ لي: لقد أضعتَ الشيء النفيس؛ لقد أضعتَ الشيء الحبيب، لقد أضعت معناك، كما أضعت إنسانيتك …

فأيُّ معنى للحياة ان لم تقم على عقيدة تناضل من أجلها؛ وهي العقيدة التي تقول بمحاربة كل عقيدة إلاَّ عقيدة الاعتقاد؟.. ومعنى هذا واضحٌ جليٌّ لا يعتوره أدنى شكٍّ، فما من عقيدة إلاَّ وهي تجري مجرى العادة في النفس والإنسان؛ وقديماً اتفق الفلاسفة الكبراء على أنَّ خير عادة إنما هي ترك العادة …

ولكن: هل يعني هذا أنَّ الّإنسان يمكن أنّْ يحيا في العراء، دون عقيدة، ودون التجاء؟…

لستُ أرمي إلى هذا قطعاً، وإنما الذي أراه بالباصرة والبصيرة، أنَّ  من الخير للإنسان الفرد أن ينعتق من كلِّ عقيدة أرضية؛ ليبقى إنساناً له إنسانيته المتميزة؛ لا تبِّيعاً كالماء يأخذ شكل كل إناء…

وأيُّ معنى للحياة، إنْ لم أتلفَّتْ؛ فأجد القيود الجميلة المحبَّبة تصفّد قدميّ ويديّ وعقلي وتفكيري .. ووجودي ..؟؟

احلام_مغترب1
احلام_مغترب

حديث عني وعنك …

لم نستطع حتى اليوم أن نمتلك زمام الانطلاق إثر هذه المادية المغرقة التي نعيشها والتي ابتلعت موهبتنا الأدبية فصرفتها إلى الصحافة وابتلعت رسالتنا الفكرية فكرسَّتها للتجارة وابتعلت إنسانيتنا الرفيعة فحولت مجراها إلى البشرية المنحطَّة التي تعيش لتأكل ولو من جسدٍ نتن.

أجل لم نستطع حتى اليوم، بل لم نستطع اليوم أن نعيش غير هذا الواقع الحياتيِّ المخزي لا المحزن والمضمَّخ بالعار لا بالطيب والموشَّى بالزيف لا بالجوهر والمحلى بالرذيلة لا بالفضيلة.

وأنت لو سألتني سبب ذلك لقلت لك: أنت والفكر والقرش.

أنت بهذه الـ “أنا” الكريهة.

والفكر بوضعه تحت إمرة القرش.

والقرش بكونه سلّم الرقي ودرجة شرف المنحدر.

أنت من أنت

هل ترى قام في ذهنك أن تحدِّق في واقعك لتناقش “أنا” من خلالك وتستشف ما وراءها….أنت …

لقد قام في ذهنك – كما قام في ذهني – أنّ “أنا” لا تعيش إلاّ على “أنت”. فإن كنت “أنت” لم أكن “أنا” وأن كنت “أنا” لم تكن “أنت”.

فأنت وأنا مسميَّان لجسدين لا يحلُّ الأول محلَّ الثاني إلاّ بانعدام أحدهما. فكما أن الجسم لا يشغل إلاّ فراغاً واحداً، كذلك “أنا” لا تشمل إلاّ فراغاً واحداً. وكم كان هذا الفراغ “أنت”…

ومن “أنا” ومن “أنت”…

لا تضقْ يا قارئي ذرعاً بهذا الترديد ومحاولة التحدث بأسلوب الفلسفيين. ولا تدع للـ “أنا” في نفسك أن تعمل عملها وأنا أتحدث إليك في شأنها.

أنت وأنا مخلوقان موهوبان أحياناً متفاوتان موهبة حتماً. منفعلان وفاعلان. الفكر مأجور لنا حيناً – إن انطلق من ربقة القرش. ومأجوران للفكر أحياناً – إن لم ينطلق من ربقة القرش- معمودان في حب الحياة ؛امرأةً وقلماً وجاهاً ومنصباً. فقيران إحساساً بالمستقبل أو غنيَّان به. مشبعان شعوراً بالواقع أو جوعانان إليه. منطلقان حرية أو مقيَّدانها أو أسيرانها. فقد يكون المرء سجين حرية وهو أسمى درجات العبودية…

فهل عرفت من “أنا” ومن “أنت” .. ما أظن ذلك أبداً. لأن الخطوط التي قدَّمتُها لك أسطراً مكتوبة أنت – لا “أنت” – تعرفها جيداً كما أعرفها. ولكن الذي أريد أن أقرره هنا هو هل هذا الـ “أنا” وهذه الـ “أنت” من الواجب – على ضوء هذه الخطوط – أن تعيش إحداها على الأخرى أو أن لا تعيش الواحدة إلا بعد إزالة الأخرى …

مئة قضية وقضية، بل ألف قضية وقضية بل ألف قضية وقضية يمكن وضعها على خوان البحث نخرج منها جميعاً بنتيجة واحدة هي:

(لقد آمن الأدباء والمتأدبون منذ النشأة الأولى بأنه لا يكون أحدهم حيث يكون الآخر).

ولكن شخصاً أو إنساناً أو رجلاً واحداً في هذا العالم – وقد يعضده أو سبقه امرؤ مثاليٌّ غيره ولد يوم مولد الرفق وقد يكون هناك غيره أيضاً دون حصر – لم يؤمن بهذه النظرية بل آمن بنظرية أبقى على الدهر وهي القائلة

( إنه يجب على المجموع أن يكون في واحد. ويجب على الواحد أن يكون في المجموع ).

حديث_عني_وعنك

تطوّر العالم العربي …

نُشرت في اليقظة العربية السفر الثاني 1946

أرى أن اتجاه مستقبل الشرق يكون ذا شطرين : أولهما تطورقومي ، وثانيهما تطور ديموقراطي .

أما التطور القومي : فسيكون بتعزيز فكرة الوحدة أو الاتحاد العربي رغم العقبات التي نراها الآن والتكتلات الموجودة ضمن الكيان العربي نفسه . ولابد من يوم تنتصر فيه فكرة الشعب العربي في الوحدة أوالاتحاد على هذه العقبات والتكتلات . وإذا رجعنا إلى الماضي القريب ، نرى أننا لسنا مبالغين في هذا التفاؤل ؛ لأن بعث الفكرة العربية لا يزال حديثاً ؛ إذ أنه بدأ على أثر الحرب العالمية الأولى ، وإن كانت أصوله تعود الى عهد الاتحاديين . ولكن بقي الاتحاد العربي في الفترة ما بين الحربين في عالم الخيال والنظريات ؛ و إذ بهذا البعث يخطو خطوة جدية فيحقق الجامعة العربية ! أجل إنَّ هذه الجامعة  لا تشفي غليل الشعب العربي الظامئ إلى وحدة أو اتحاد سياسي حقيقي ، ولكن لا ينكر في الوقت نفسه أنها خطوة حقيقية نسبة إلى الحقبة القصيرة من الزمن . ونأمل في المستقبل القريب أن تنقاد العروش إلى إرادة الشعب ، كما حدث في إيطاليا وألمانيا حين تكوينهما . أجل لا نزال نخشى من تدخل أجنبي يفسد على العالم العربي أمانيه . ولكننا أمام تطور العالم بعد هذه الحرب الطاحنة وأمام قوة الفكرة العربية لدى الشعب العربي وأمام تصادم مصالح الدول الكبرى ؛ نرجو ألا يخيفنا شبح هذا الخطر. ومن يدري فلعل مصالح الدول الكبرى نفسها تساعد على تحقيق الكيان العربي .

هذا من الناحية القومية .

أما من الناحية الديموقراطية : فما نُسَرُّ له أنَّ تعميم الثقافة ساعد على الوعي القومي ، وبدأ الشعب العربي يفهم الغث من السمين  وهو واضعٌ ـ ولا شك ـ حدَّاً للسُلُطات المطلقة وتسيير حكوماته وفقاً لإرادة شعوبها ،

وسيقضي على مازال باقياً من الوضع الاجتماعي السابق الذي كان يجعل العالم العربي ألعوبة في يد بعض الحكَّام الاقطاعيين . قد يعترض بعضهم على ذلك بقوله :إنَّ العالم العربي لم يُصبح بعدُ في حالة تمكنه من التمتع بالحياة الديموقراطية الصحيحة . وفي هذا القول كثير من الحقيقة . لذلك فالعالم العربي يرغب بسلطة قوية  ، شريطة أن تكون هذه السلطة لمصلحة الشعب ،  لا لمصلحة الفرد .

وإذا لم يُتَحْ للشعب العربي نظامٌ كهذا فهو سيسير بطريق الديموقراطية الحديثة رغم ما نتوقعه من زمن  ومن عقبات إلى أن تقوى وتتأصل الحياة الديموقراطية.

تطور_العالم_العربي

” الشاعر ”  بين غَيريته وأنانيته

جنح أعلام النقد الأدبي في الغرب إلى تصنيف الشعراء إلى غيريين وأنانيين ، منذ أن شرعوا في وضع الأسس الأولى للنقد ، يريدون بالغيريّ ذاك الذي ينظر في أمور غيره وأحواله ويقف شِعره على وصف آلامه وأحداثه ، دون أن يهتم بنفسه من قريب أو من بعيد ، وجاعلاً من غيره وحدة شِعره ومصدر وَحيه، لاعتقاده بأن للشاعر رسالة عليه أن يؤديها ، وهذه الرسالة  تقوم على مبدأ الإحساس بآلام الآخرين والتعبير عنها ، لأنَّ الشاعر ليس ملك نفسه وحدها وإنما هو ملك هذه المجموعة التي تقرأ له ، فمن حقّ هذه المجموعة عليه أن يهتم بها ويترجم آمالها وآلامها؛ فالشاعر إذن من هذه الزاوية غيريّ ، يعيش لغيره ولا يعيش لنفسه ويفكر لغيره قبل أن يفكر لنفسه .

وأمثال هؤلاء الشعراء يمكن أن نطلق على جملتهم أنهم أصحاب المدرسة الكلاسيكية التي تُعنى بشؤون الـ “غير” أكثر مما تُعنى بشؤون الـ “أنا “.

ومن الواضح أن أهداف هذه المدرسة إنما هي في جذورها وأعماقها أهداف المدرسة الأخلاقية التي تهدف إلى إصلاح المجتمع عن طريق عرض مشاكل الفرد الآخر . ومن هنا رأى النقاد في الشعراء الغيريين، مصوِّرين بارعين للبيئة والمجتمع ، صادقي الدلالة على العصر والحقبة التي عاشوها ، فهم من هذه الزاوية إنسانيون مطلقون لا يحدُّهم حدّ ولا يقف في وجههم سدّ .

فإذا قدَّس الناس الغيريين فلأنهم يلمسون أحاسيسهم ، ويترجمون عن مكنونات نفوسهم ، كما يحب أي انسان اإنساناً آخر يراه ، يتحدث عنه ويسهب في الحديث.

على أن موضوعات المدرسة الـ ” غيرية ” إنما هي موضوعات المدرسة الكلاسيكية التي تلامس العواطف المشتركة بين أفراد الأمة الواحدة ؛ فإذا وجدنا شاعراً مثل “ كورني ” – وهو من أعلام المدرسة الكلاسيكية في فرنسا – يعالج مشكلة الواجب والعاطفة في اصطراعهما ، تراءت لنا منذ الوهلة الأولى غَيريته في تعرضه لموضوع يتصل بجملة الناس الذين يعيشون في جيله . وهل يمكن لنا أن نتجاهل أن الغيرية في حد ذاتها إنما هي أنانية في واقع أمرها وصادق مفهومها ؟

إن الـ “غير” هو في الواقع مجموع الـ “أنا ” ، كما أن الـ “أنا “..إنما هو جزء من الـ “غير “، لاشك في ذلك ولا ريب ؛ وليس في هذا الكلام غموض ولا إبهام ، ذلك أن كلّ  ” أنا ” بالنسبة للآخرين ” غير ” ، وأن كلّ “غير” بالنسبة للآخرين ” أنا ” ، ومن هنا اشتبكت أصول الأنانيين مع الغيريين في جذورها وأعماقها وإن كانوا أحبوا أن يجعلوهما على طرفي نقيض ، معتقدين أن الغيريين هم الذين يعيشون لغيرهم وأن الأنانيين هم الذين يعيشون لأنفسهم، وما دام الإنسان منفصلاً عن غيره فقد حقَّتْ المطابقة ووقع التناقض ، فقيل : هذا من الغيريين دلالة على اختلافه بوجهة النظر مع الأنانيين  ، وقيل هذا من الأنانيين للتعبير عن اختلافه بوجهة النظر مع الغيريين .

ومن جانب آخر ، يريد النقاد من قولهم ” أنانيون ” أولئك الشعراء الذين يعالجون موضوعات أنفسهم وذاتهم دون أن يُعنوا بشؤون غيرهم من قريب أو من بعيد . ومن هنا يمكن لنا أن نقول : إن الشعراء الأنانيين هم أصحاب المدرسة الرومانطيقية .

الشاعر-بين-غيريته-وأنانيته-
الشاعر-بين-غيريته-وأنانيته-2

أين نحن

من الجدير بنا قبل أن نطرح هذا السؤال على حضرات القُرّاء والكُتّاب على السَّواء أن نجعله مدار إجابتنا، ونضع صيغة الجواب قبل أن نضع صيغة السؤال ؛حتى لا نجد يوماً غامزاً يغمز أو لامزاً  يلمُز، ويجعل من سؤالنا مجالاً لطعنِ خبيثٍ وتجريحِ لئيمٍ خسيس.

ولكنَّ الواقع الذي لا مشاحةَ فيه ولا مشاحنة، أننا تلفَّتنا يوماً إذا بنا نجد أنفسنا وقد تخلَّفنا تخلُّف الأرنب في مجالات السّباق مع السّلحفاة.. وإذا بنا نجد أنَّه لم يبقَ من أحدٍ وراءنا، كأنَّما كان المفروض أن نظلَّ متخلِّفين وأن يسبقنا من قال فيهم الشاعر الخالد:

  تقدَّمتني أناسٌ كان شوطُهم                                                                                                               وراء شوطي لو أمشي على مهلِ

فعندما ترانا نثور لما نرى بأمِّ أعيننا وما نسمع بأمَّهات آذاننا فلا نستغرب هذا منّا أو من غيرنا؛ وإنَّما استغربُ إذا وجدتنا نرتضي الصَّمت إلى الأبد … فمهما طالتْ غفوتنا فقد كان لابد لمثل هذا المقال أن يظهر في يوم من الأيام .. وها قد آن أوانه ليجد طريقه إلى المطبعة تمهيداً ليستقرَّ في الآذان الواعية والقلوب الظامئة للمعرفة والتي كانت وما تزال تتساءل .. أين أنتم؟.

                                                 *******

ولستُ أجد أحلى من عرض هذه “النّماذج” ليعرف القرّاء الكرام فيمَ تبادر إلى ذهننا أن نسأل هذا السؤال ونحن نعلم علم اليقين أنَّ الإجابة عليه لا تحتاج إلى أكثر من أديبٍ طُلَعةٍ يزنُ الأمور بميزان الفَهم الصّحيح والتذوّق الرّاقي الدقيق، وإلى أكثر من قارئٍ واعٍ يعرف الخبيث من الطيِّب فيما يقرأ من منثورٍ ومنظوم.

                                             *******

جلسنا مرةً في دار الإذاعة السوريّة (أيّام كان يُشرف عليها ويُديرها شكليّاً السيّد راتب الحُسامي) وكنا في الغرفة ثلاثةٌ: الأخ “صباح قبّاني” مدير برامج الإذاعة، والأخ “سعيد الجزائري” رئيس تحرير مجلّة الإذاعة وفي نفس الوقت رئيس تحرير مجلة “النقّاد” والأخ “أنا” … ولستُ أدري ما الذي ساقني لزيارة الإذاعة آنذاك، وكلُّ ما أدريه أنَّ لنا إخوةً وأخواتٍ في الإذاعة يصحُّ أن نزورهم بين فترةٍ وأخرى لنسمرَ بعض الوقت ونطمئنَّ على صحتِّهم وسلامتهم … وقضى الله أن ينتقل الحديث بنا إلى الأستاذ “شاكر مصطفى” (ولا يفوتني  أن أذكر هنا أنَّ الأخ سعيد الجزائري هو الذي عرَّف القرّاء على الأستاذ شاكر مصطفى المُنطوي على نفسه حتى قدَّمه الأخ سعيد للقرّاء عن طريق مجلّة “النقّاد” … ولستُ أدري بالتالي كيف قلت للأخ سعيد حتى يقتصد بهذه الدّعاية (الأكثر من اللازم) التي يُحيط بها الأستاذ شاكر؛ إذ جعل منه الكاتب الأوّل في القدماء والمُحدَثين، وأنَّه بلغ القمَّة وترك جميع الكتّاب على السّفح يتلوّون ويتأوّهون حسرةً على القمَّة التي تربَّع على عرشها ذاك العملاق الجبّار .. وتطلَّع إليَّ الأخ سعيد بطرف عينه ـ على طريقته الخاصَّة التي يتلامح لك أنَّه ينظر إلى كلِّ شيءٍ عداك ـ  وهمس من أنفه “أستاذ أنت لستَ هنا”، وقال بلهجته العاميَّة الرّائعة  (أنت مو هون بنوب) … فعجبتُ وأبديتُ تعجُّبي وقلتُ: نحن نعلم ونرافق منذ مدّةٍ طويلةٍ الحركة الأدبيّة في سورية، ونعلم حقَّ العلم أنَّ هناك أدباء لا يصحُّ مطلقاً أن يتمرَّغوا على السَّفح بينما يتربَّع الأستاذ شاكر مصطفى على القمَّة ناظراً إلى الفقراء نظرة عطفٍ وشفقةٍ وحَدْب … فسألني: مَنْ تقصد مثلاً؟ فقلتُ: نحن لا ننكر أنَّ الأستاذ شاكر يعرف الكتابة ويُحسنها، وله جولاتٌ في ميدان التأريخ فيها روح الشباب الوثّاب، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ جملته الإنشائيّة بلغت هذه المرتبة التي تجعله يتسنَّم القمَّة ويترك الباقيين يحبون على السَّفح دونَه.

فقال مَنْ تَعني مثلاً؟ قلتُ إنَّه الأستاذ “محمّد روحي فيصل” فله من الجملة الإنشائيّة المُبدِعة ما تتركه علَماً من الأعلام الذين لا يُشقُّ لهم غُبار … فهاجَ الأستاذ سعيد هياجاً غريباً أو غير غريب وتبعه بصورةٍ عفويّةٍ أو مصطنعة الأخ صباح قبّاني (وهما يعملان معاً في غرفةٍ واحدة من غرف الإذاعة) وأخذا يرجمانني ـ برقّة وبغير رقّة ـ ويباعدان ما استطاعا بين الأستاذ شاكر والأستاذ روحي قائلين بأنَّ محمد روحي فيصل قد (حطَّ الطّاعة) لشاكر مصطفى في هذه الغرفة بالذات وأمامهما معاً مجتمعَين لا منفردَين .. ثمَّ شرعا يسألانني عن آخر المقالات التي كتبها الأستاذ روحي وهل اطّلعتُ عليها وعلى آخر المقالات التي كتبها الاستاذ شاكر وهل طالعتُها، فلمّا أجبتُهما بالإيجاب هزَّ الأخ صباح قبّاني رأسه علامة الإنسان المتألّم الغارق في ألمه لهذه السّويّة التي تردّيتُ فيها بعقدي مقارنة بين رجل القمَّة ورجل السَّفح، وهمسَ: أستاذ، لا مجال للمقارنة بينهما؛ إذ في المقارنة حطٌّ من شأن ذاك المُتربِّع على العرش وحده ….

ويشاء سوء طالعي أن يدخل في هذه اللحظة بالذات أستاذنا الجليل وصديقنا الذي نفخر بصداقته الدكتور “حكمة هاشم” (الذي شِيءَ له بالحقِّ أو بالباطل أن ينصهر في هذه البوتقة العجيبة) وعرضا عليه الأمر كما يعرضان عليه حادثةً رهيبةً أو قصة جريمةٍ شنعاء ارتكبها هذا المسكين الذي هو “أنا”، فكان موقفه ـ حفظه الله ـ كلُّه التحفُّظ، وهو الأديب الطُّلَعة النّابه الذي لا يُشقُّ له غبارٌ في مجالات الفِكْر جميعاً … فاعتبرا سكوته على الأمر انتصاراً لهما عليَّ، ففرحا أو ـ فيما أذكر ـ عرضا عليه الأمر على أنَّه قضيّةٌ مفروغٌ منها .. وأوحيا إليه أنَّ الرأي مبتوتٌ فيه، وأنَّ الكفَّة راجحةٌ، وأنَّ ما يقوله هذا الثالث في الغرفة إنْ هو إلّا من قبيل التفكِهة …

وشهد الله أنني غادرتُ الغرفة وأنا أشقى الناس بنفسي وبهؤلاء الناس الذين توزَّعوا القمَّة وما حولها، وجلسوا يوزِّعون السَّفح والحضيض على بقيَّة الرعيّة أو الرُّعاع … ولمْ ألُمْهُم في هذا الذي يقولون به ويفعلونه. وأنا أنصرف بلومي إلى أستاذنا الأديب “فؤاد الشائب” الذي نقلوا إليّ أنَّه وقف مرَّةً في (النّادي العربيّ بدمشق) في إحدى حفلات التتويج التي كان يمنُّ بها الأخ سعيد الجزائري على بعض المتأدّبين فيمنحهم جوائز أدبيّة ليستعبد أقلامهم وقلوبهم، أعود لأقول إنَّ الأستاذ الشائب وقف مرَّةً ـ كما نقلوا إليّ ولم أكنْ حاضراً واحسرتاه ـ في النادي العربي وقال ما معناه : “سيسجِّل التّاريخ بمدادٍ من ذهب أنَّ سعيد الجزائري هو خالق النّهضة الأدبيّة في  سورية ،  وأنَّه  هو  الذي  خلق هؤلاء الأدباء ……”

أجل … نلومُ هذا الرجل الكبير لأنَّه جعل منهم حكّاماً يوزِّعون القمَّة والسَّفح والحضيض ….

                                                ********

القصّة الثانية: هي قصَّة هؤلاء الشباب الذين أطلقوا على أنفسهم لقب (رابطة الكتّاب السوريين) ولم يكتفوا بهذا بل عمَّموا وانطلقوا إلى حيث يريدون لأنفسهم أن يكونوا (رابطة الكتّاب العرب) … وقصّتُهم لا تصلُ في الطرافة إلى ما وصلتْ إليه قصَّة الأخوين “جزائري قبّاني” وإنَّما لها نكهةٌ أخرى، ومن نوعٍ أطرف ….

ayn_nahn
ayn_nahn2

نيرون

هو إمبراطورٌ رومانيٌّ، تولَّى المُلك وهو ابن 15 سنةً، فأظهر في أوّل أمره الوداعة ولين الجانب، ثمَّ تغيَّرتْ أحوالُه وتبدَّلتْ أطوارُه؛ فأخذ في سلوك سبيل الجَوْر والعَسْف، وأوغل في رعيّته ظُلْماً وجَوْراً، وارتكب في تسكُّعه في هذا السبيل أموراً لم يستجمعْها ظالمٌ قاهرٌ من قبله.

عدا على معلِّمه الفيلسوف “سينيك” المشهور فقتله، وقتل أمَّه التي كانت سبباً في تولِّيه المُلْك وإجلاسه على العرش، وقتل امرأته وأخاه، وقتل بولُس وبُطرُس الرَّسولين المسيحيَّين المشهورَين، وقتل مُرقُص صاحب الإنجيل بالإسكندريّة. 

وكان يكره أن ينتشر الدّين المسيحيّ في روميَّة، فبلغَه أنَّ بعضاً من أهلها صبأ إلى هذه الدّيانة فأمر بإضرام النّار في قسمٍ منها، وجلس على سطح قصره يعزف بالألحان ويتلهَّى بالنَّظر إلى النّار وهي تلتهم بألسنتها المندلعة الرّجال والنّساء والأطفال. ثمَّ نهض فاتَّهم المسيحيّين بإحراقها وأخذ في التفنُّن في اضطهادهم حتى لم يَدَعْ وجهاً من وجوه القسوة إلّا ارتكبها فيهم.

فلمّا طال على النّاس أمره اجتمعت كلمة رجال المملكة على عَزْلِه فعزلوه، وحكموا عليه بالقتل ضرباً بالعصيّ فأبتْ نَفسُه أن يموتَ تَعذيباً، فقتل نفسَه بيده. وقيلَ أوعز إلى كاتم سرِّه بقتلِه فقَتَلَه. وقيلَ هجم عليه الجنود فقطَّعوه بسيوفهم إرَباً إرَباً حتى لم يبقَ له عضوٌ يُعْرَف، ثمَّ رموا بأشلائه إلى الكلاب.

وُلِدَ سنة 37 م، وتولَّى المُلك سنة 54 م، وقُتِل سنة 68 م.

niron

اللّحية المؤقّتة

                                                                            تمهيد

“هذه قصَّة قصيرة من الأدب السّريالي، لـ “ميكل آنجل آستورياس”؛ قصَّة أُمَّة في سطور، لا يفهمُها إلّا من يريد الفَهْم، ومن له القدرة على قراءة ما وراء السّطور…

تعرَّض الكاتب، الذي انضمَّ إلى المدرسة السّرياليّة عام 1930، للنفي والتشريد، وللحرمان المادّي في باريس، بلد الرَّغَد الفكريّ والفنّيّ. وللمؤلِّف أربعة كتُبٍ “سيّدي الرئيس” و”ريحٌ عاصفة” و”البابا الأخضر” و”عيونُ المدفونين”؛ ولقد أشقاه قلمُه بقدر ما أسعد قُرَّاءَه في عالم الفِكْر حتى انطلق متحرّراً من قيود الشّقاء إلى البقاء. 

ولكي ندرك من هو “ميكل آنجل آستورياس Miguel-Angel Astorias”، وندرك المعنى العميق الذي أراده في قصَّته “اللّحية المؤقّتة” يكفي أن نعرف أنّه من جواتيمالا، ذلك البلد الذي يسيطر عليه الأمريكيّون المتجسِّدون في كيان شركات “بوستن” و”أرولئان الجديدة“؛ أو بعبارة أوضح “يونايتد فروت كومباني” – أي شركة الفواكه المتّحدة ـ … ومنذ أن تسلَّلتْ أرجل هذه الشّركات و”مارسيل أوفي” يحاول أن يجتذب إليه ذلك الجائع الطّريد، موهماً إيّاه أنَّه ليس ما يتخيَّل؛ بل إنَّه هو، منه، يعمل له!! فلمّا أوغلت السّفينة في البحر، جاعلةً المحيط بين الكاتب ووطنه الشهيد، رفضتْ آلهة البحر أن تُعيده إلى باريس بلحية “مارسيل أوفي”، إنَّها لحيةٌ مؤقَّتة، لحيةٌ لجواتيمالا وليستْ لباريس، حيث يعرِفُ مَنْ هو دون أن يوهمَه أحدٌ بأنَّه ليس هو!!!”

                                                                                                                                   المُترجِم  

 المقصود هو مدينة نيو أورلينز New Orleans في ولاية لويزيانا.

lhia_moakata