مَصْرَعُ المَثَّالِ
تأليف زهير ميرزا عام 1942 م – 1361 هـ
مسرحية شعرية موسيقية
في ثلاثة فصول
مهداة
إلى مُلْهِمِنيهَا
الأستاذ توفيق الحكيم
تقضي الأمانةُ الأدبيةُ أن أُشيرَ إلى أنَّ الفضلَ في اختيار هذه الأسطورة لتكونَ مادةً لمسرحيتي، يرجعُ إليكَ يا سيدي الأستاذ الفنان الحقَّ توفيق الحكيم! لأنكَ استطعتَ بلُدُونةِ قلمِكَ أنْ تُغلغلَ في أطوائي سحرَ هذه الأسطورةِ لمَّاْ نشرتَها في كتابكَ الفنيّ “بجمليون”. فأخذتُ عن قلمكَ هذا السِّحْرَ الذي رَشَقْتَهُ بعبقريتكَ بين أحرفِ المطبعةِ الجامدة، فأحَلْتَها إلى مخلوقاتٍ حيَّةٍ متحرّكةٍ لها سحرُها ولها تأثيرُها العميق، وحيويتُها الصارخة.
دمشق. زهير ميرزا
هَمْسَة
قبل أن أفكّرَ في طبع هذه المخطوطة، عرضتُها على مئة شخص وشخص؛ ولا استطاعوا أنْ يفسحوا لها في وعيهم مجالاً؛ أو إن شئتَ، ما استطاع وعيُهم أن يتفهَّم ما رميتُ إليه، لأنه أبعدُ بكثير من مفهومهم السطحيّ المحدود.
وعدتُ إلى نفسي غداةَ انتهيتُ من عرض نماذجها، وعرضتُها على نفسي من جديد علَّني أُنكرُ منها شيئاً، فما أنكرتُ. فتساءلتُ: فيمَ تلك الفئة ما فهمت عنّي، أو فيمَ مفهومي ما استقرَّ في وعي تلك الفئة؟ فرددتُ ذلك إلى أمرين جوهريين:
أولُهما: لم تستقرّ بعدُ في أذهان الناس فكرة “إرسال الشعر مع الموضوع” ولا أقصد بهذه عينَ فكرة الشعر المرسل”، الذي حاول الأستاذ “درّيني خشبة” أن يعرّفَهُ فقال ما معناه: “الشعر المرسل هو الشعر الذي يتخلَّص من قافيته؛ لأن القافية آسرٌ للفكرة يقيّدها بقيد محدود”، ومن ثَمَّ أتى بأمثلة للشعر المرسل للدكتور طه حسين. وفي رأيي الخاصّ، إنَّ مفهومَ الأستاذ “درّيني خشبة” للشعر المُرسل، مفهومٌ سطحيٌّ لا أكثر ولا أدنى. فقد لاحظ على ما يظهر ـ أنَّ بعض الشعراء يُرغَمون على وضع لفظةٍ في القافية قد تُخالف ما يرغبون في التعبير عنه فقال ما قال.
أما أنا، فلست مع الأستاذ في هذه الفكرة مطلقاً. نحن ندعو ـ بل يجب أن ندعو ـ إلى فكرة الشعر المرسل؛ ولكن ليس عن طريق التنازل عن القافية! لأنَّ القافية هي ذلك الإيقاعُ العذبُ الذي يُرافق موسيقى الشِّعر. وأيُّ شعر؟ هو الشعر العربي بصورة خاصة! ولمَّا كان يتميَّزُ بإيقاعه وتساوقه ومقاطعه، فقد وجَبَ حتماً أن يُرافقَ ذلك كلّه مرحلةٌ انتهائيةٌ موسيقية، تُبَقِّي في أحناء الإنسان صدىً بعيداً جداً، هو نفس ذلك الصَّدى الذي يُطربك عندما يضرب عازف العود على عوده؛ فهل أنتَ تطربُ من تلك الضربة على الوتر، أمْ تطربُ من الصَّدى الذي يتسرَّبُ من تأثير الضربة على الوتر؟… لاشكَّ أنك تكون مطروباً عندما يغني مُغَنٍّ، أو يعزف عازف، ولكنك ولا ريب تكون أكثر طرباً عندما ينتهي. إنَّ تلك الفترة أو المُلاوة التي تعقب الغناءَ أو العزفَ، هي الفترة التي تطرب فيها وتعي النغمَ تماماً؛ لذا نرى أنَّ يديك قد اندفعتا للإعراب عن الإعجاب بتصفيقٍ حادٍّ، أو بإرسال أصواتٍ مِنْ فيكَ تؤدي نفسَ الغرض.
فالشعر العربيُّ لا يمكن ولا بوجهٍ من الوجوه أن يتخلَّص من القافية، لأنها مِيزَتُه الخاصَّة، وصفته المُميِّزة. إذنْ، نحن لمَّا ندعو إلى “الشعر المرسل” أو إلى “إرسال الشعر مع الموضوع” إنَّما ندعو إلى تحرير الشعر العربيّ مِنْ رِبْقةِ وحدة البيت، أو التحرّر من رِبْقةِ التصنُّع في رصْفِ الألفاظ بعضها إلى جانب بعض، وإنَّ نظرةً واحدةً متعمِّقةً تُلقى على بعض مقطوعات “أفاعي الفردوس” للشاعر أبي شبكة، تعطيكَ فكرةً صادقةً عما أرمي إليه. وإنَّ الدعوة لمثل هذه الفكرة، معقولةٌ مقبولة، لا تمسُّ جوهر الشعر، وإنَّما تجعله يساير التطوّر مسايرةً تُلمَسُ.
ثانيهما: الذي ألِفَتْهُ أسماع الناس من الشعر العربيّ، هو ذلك النوع الجامد المتحجِّر، الذي لا يؤدّي فكرةً ولكنَّه يهزُّ شعوراً. وهنا مجالُ التساؤل فسيحٌ، إذ: كيف لا يؤدّي فكرةً ولكنَّه يهزُّ شعوراً؟ .. والجواب على ذلك سهلٌ هيِّن:
هَبْ نفسكَ ـ أنت أيُّها القارئُ الكريم ـ في جمعٍ زاخرٍ في يومٍ ثائر، أيْ كنت بسبب ابتهاجٍ بقدومٍ أو اندفاعٍ نحو غاية، وتوالى على المنبر خطيبان، أحدُهما بدأ يشرحُ لك بصوتٍ هادئٍ مُتَّزنٍ وادعٍ فلسفة التهيُّج، وأخذ يشرح لك بأناةٍ سبب الحادث من الناحية المنطقية ومُسَبّبَهُ، فهل يمكن لهذا الخطيب ـ على ما أُوتيَ من تفكيرٍ عميق وتفهُّمٍ أعمق، وتبسيطٍ أدقّ وبلاغةٍ بيانيّة ـ أن يبعثَ في نفسكَ ما يبعثُه خطيبٌ مفوَّهٌ جهوريُّ الصوتِ حادُّ النبرات، مُتقِّدُ العينين، أحمرُ الوجه، كبيرُ الفمِ عندما يهيبُ بك: هيَّا!؟ .. كلا حتماً!
إنَّ قولَ الثاني، الخالي من الفكرةِ البعيدةِ والمَرمى سوى السَّير إلى أمام، لَيَفْعَلُ فيكَ ما لم يفعلْه الأول. والسبب في ذلك واضحٌ بيِّن؛ إذ أنَّ طبيعتك الحماسيَّة تتطلَّب رجلاً ذا صوتٍ أجشَّ، ونبرةٍ قويّةٍ حادّة. وهنا فقط، نستطيع أن نقول: إنَّ قولَةَ هذا الخطيب المُندفع لم تؤدِّ فكرة، ولكنها هزَّت شعوراً.
وكذلك الناسُ حتى يومنا هذا، فهم يتطلبون من الشاعر أن يهزَّ شعورهم، لا أن يؤدّيَ لهم فكرة. أولمْ يقل الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزَّهاوي:
إذا الشعر لم يهزُزْكَ عند سماعه فليس خليقاً أنْ يُقالَ له شعرُ
وألمْ يقل أستاذُنا الشاعر الفحل محمَّد البزم:
الشعر مـا مـلأ الأسمــاع قاطـبــةً وخـــالَـــهُ ربُّــــهُ وحـيـــاً وإلهامــا
ماذا نستطيع أن نستخلصَ من هذين الرأيَيْن لشاعرين فحلين؟ إننا لن نخرج إلاّ بالشعر الذي يهزُّكَ هزَّاً ولا يؤدِّي لك فكرة.
كنتُ أقول: وكذلك الناس حتى يومنا هذا، فهم يطالبون الشاعر أو يتطلبون منه أنْ يهزَّ شعورهم لا أن يؤدّي لهم فكرةً؛ ومن هنا يتضّحُ تماماً لماذا لم يفهم عنّي مئةُ شخص وشخص لمَّا عرضت عليهم هذه المسرحية.
إنَّ هذه المسرحية لا تهزُّك هزّاً، ولكنها تؤدّي لك فكرة؛ وبقدر ما يكونُ وعيُكَ على استعدادٍ لتَفَهُّمِ الفِكْرِ، يكونُ اهتزازُكَ. وأيُّ اهتزاز؟ .. هو الاهتزازُ الناشئُ عن التفهُّم، وبَعدَ إعمال الرويَّة، لا الذي يهزُّكَ عند سماعه! ..
فأنا إلى هذا النوع من الشعر أدعو، وإلى هذه الفكرة أرمي.
أريدُ شعراً مرسلاً مع الموضوع، يتقيَّد بقيود القافية التي تتمشَّى والفكرةَ بقدر ما تكونُ الشاعريةُ غزيرةً فيّاضةً، أو مقتصدةً ناضبة.
وعندما ننتقل بك ـ أيها القارئ العزيز ـ إلى تحليلات شخصيات المسرحية؛ ستجد الأمثلة الحيَّة على هذا النوع من الشعر الذي ندعو إليه. والإخلاصُ من وراء القصد.
1944/2/23 زهير ميرزا
أصل الأسطورة ما معناه:
نحت “بجمليون” – وهو المثّال القدير – تمثالاً رائعاً من العاج – وقيل من غيره – أسماه “جالاتيا” أحبه حتى عبده. ثم طلب إلى الآلهة أن تنفخ فيه من روحها. فما أن دبت الحياة في “جالاتيا” حتى فسدت! فعاد “بجمليون” يطلب إلى الآلهة أن تعيدها تمثالاً ففعلت ثم حطم التمثال.
الصديق
أيهــذا الإنســان قدّســـك الله وصبّ الإخـــلاص في أعراقـــك
ونضا عنك صبغة اللؤم في الفجر، بيوم الميـلاد، عند انطلاقك
وحبــاك الفــؤاد ينبض بــالحس لتأسو الجـــراح مـن إشـفاقـــك
وسقاك الحنان في أكؤس الحب لتروي الظمـــآن من أخلاقك
ثـم سـمّاك بـ “الصديق” !. وإن كنتَ خيـالاً لم تـأتِ بعد انبثاقك!!
1943/3/14
مصرع المثَّال
“مَـاْ لبجْمَلْيْونَ أوْ مِنْقَاْشِهِ دَغْدَغَا رُوْحَ الرُّخَاْمِ الجَاْمِدهْ
فــأَحــــاْلاْهَاْ إلـــى آلِهَــــــة تُعْبَدُ اليَوْمَ، وَكَاْنَتْ عَاْبِدَهْ؟”
“زهير”
شخصيات المسرحية
بِجْمَليُون: مثَّال، في الخامسة والستين من عمره، أبيض شعر الرأس، زائغ البصر …
جَالَاتيَا: التمثال الرخامي
أولاً: معبود بجمليون.
ثانياً: فتاة رائعة الجمال في التاسعة عشرة من سنيِّ حياتها.
نِرْسيس: شابٌّ في العشرين من عمره. صديق بجمليون الوحيد. ثم حبيب “إسمين” ثانياً.
إسْمِيْن: عاشقة نرسيس، في الثامنة عشرة من حياتها. فتاة هائجة.
أبُّولون: إلَه الموسيقى والفنّ، صديق بجماليون بالعاطفة، وزميل “فينوس”، وصديقها أيضاً.
فينوس: إلهة الحُبِّ والجمال.
جوقة موسيقية راقصة، مُغَنٍّ.
** الفصل الأول **
المسرح
««ليلة من ليالي فينوس»»
(الوقتُ مساءً .. الظلام يكتنفُ الغابة البادية من وراء المسرح، ويغمر المسرحَ أيضاً إلاّ من نورٍ أخضر يغمرُ بعض جوانبه. في الجانب الآخر، ستارٌ من الدانتيلا شفافٌ؛ يُخفي بصورةٍ بسيطة، تمثالاً من الرُخامِ قائماً رمزاً للجمال، هو تمثال “جالاتيا”..
في جوانب باقي المسرح، بضعةُ مقاعد نصف مهشَّمة .. عليها أدوات النحت وبقية قطع رخامية. )
«المشهد الأول»
“بجمليون”… يذهب ويغدو، وبين يديه منقاشُه … يرميه من يده بعد فترة ذهاب وإياب، ثم يقترب من الستار ويكشفه عن التمثال .. ويقف قليلاً متأمّلاً، ونورُ القمر الفضيِّ مُنصَبٌّ على التمثال … موسيقى هادئة خفيفة، تبدو كأنها آتية من بعيد، وتستمر طيلة المشهد الأول.
بجمليون: -(مخاطبا التمثال)-
جــالاةِ .. يا حُلمي الجميـل .. ويا لحُوني الناعمهْ..
يا قُبْلَةَ الطَّلِّ النديِّ على الزهــــــور النائمــــهْ..
يا نبتةً، جاءَ الربيعُ بهــــا يُنيـــــــرُ مَعَالِمَـــــهْ..
ما أنتِ بنتُ الأرضِ حيـــثُ النَّفْسُ فيها جاثمهْ..
بَلْ أنتِ، زنْبَقَةُ الريـــاضِ إلى القلوبِ الحالِمهْ ..
جالاةِ .. يــا لحنَ الخـلودِ .. بـذي الـدُّنَى المُـتَـقَطِّـعـــهْ..
قومي .. فقد جـاءَ الربيعُ مع الهوى، فامشي مَعَهْ..
وتَبَـسَّـميْ عَـنْ ثغـركِ الـوَرْديِّ.. تُــزْهي مَـرْتَـعَــــــــهْ..
مـــا هـكـذا الوَجْـــهُ المُنيرُ يغيبُ .. فـارْميْ بُرْقُعَـــــهْ..
واستقبلي عرشَ الجمالِ .. وإنْ خُــلِقْتِ مَـنْبَعَــــــه ..
جــالاةِ … قلبي قَـدْ رعـاكِ … وضَـمَّ حُبَّــــكِ بَيْـنَـهُ ..
قد صَاغَ جِسْمَكِ مَنْ نُهاهُ … فَنَالَ رُوحُك عَينَهُ ..
أَتُصَـدِّقي المِـنْـقـاشَ إنْ أَضْحَى يُقيْمُـــكِ فَـنَّــــهُ؟…
أينَ الذي سَـهِـرَ النـجـومَ يُـذيْبُ فيــــكِ فُنُـــونَهُ؟…
بَـلْ أينَ مِـنْـقاشُ الإلَــــــهِ يَصوغُ مـثـلَـــكِ أيــنـهُ؟؟؟
جــالاةِ .. بتِّ خُـلاصَـــةَ الفـنَّـانِ .. بَـلْ وَجُـنُـونَــــهُ!!!
“ثم ينحرف قليلاً ويغادرُ المسرحَ ببطء من طرفه … ثم يدخل “نرسيس” من الطرف الثاني وكان يستمع إلى مناجاة “بجمليون”.. يدخلُ متمهّلاً .. شاردَ النظر … يقتربُ من التمثال … والموسيقى لا تزال تملأ الجوَّ ناعمةً”
«المشهد الثاني»
نرسيس: -(بتؤدةٍ)-
قَدْ هَامَ بجمليــــونَ في تمثالِــــــهِ عَـبَــدَ الإلَــــــهُ صَـنِـيــعَـــةً لــيَــدَيــــــــهِ ..
رَشق الجَمَالَ عَليه حتى كادَ مِــنْ حُـسْــنِ الصـنـــاعَـةِ أنْ يـسـيـرَ إليـــهِ …
مِنْقاشُهُ منْ رُوحِهِ أَخَــــذَ الهُــدى فَــرَمَــتْ أنــــامــلُــه الـكـمــــالَ عَليــهِ ..
نَقَشَتْ أصابعُهُ الرفيقَةُ ثَغْـــــــرَهُ حتى كـــأنَّ الـلَّـفْـظَ في شَــفَـتـيــــــهِ …
وحَنَتْ على العينين تَبعثُ فيهما وهـــجـــاً. فـفـاضَ السِّــحْرُ مـنْ عَينَيهِ
وتَلَمَّسَتْ صَـدْراً فـأنضَـــجَ فَنُّــــــهُ فــجَّ الثِّـمَــــــــارِ، فَـكَـوَّنَتْ نَـهْــدَيــــــهِ ..
تجري الدِّمـا دفَّـاقـــــة بِعُرُوقِــــــهِ أوْ قُـــلْ تُــخُــيِّــلَ ذاكَ في فَــرْعَـيْــــهِ …
شريانُـهُ الوَرْديّ خَـضَّـبَ عـــابثــــــاً بــخُــضَــابِ حُـمْـرَتِــــهِ دُنَى خَــــدَّيــــــهِ …
وتهدَّلَتْ خُـصـلاتُ شَـعْرٍ فاحــــمٍ كَــسَــتْــهُ سِــحْــراً، والظِــلالُ عَـلَـيـــهِ ..
جـسـمٌ أُنُـوثيٌّ، تَـفَـجَّـــــرَ نَـبْـعُـــــــــهُ عَــنْ شَـهْـوَةٍ .. فــاهْــمِسْ إلى أُذُنَيهِ ..
ويَــضُــوعُ عِـطـــرُ الــــفَـــنِّ مِــــــنْ أطرافِهِ فَنٌّ يموتُ الفنُّ بينَ يَدَيــهِ!!!..
تترقرقُ الحيواتُ منْ قَسَمـــــاتِــهِ قَــدْ صـيْـغَ تـمـثـــالاً يُـخَـــرُّ لَــــــدَيــــــهِ!!.
«المشهد الثالث»
(تقترب بعض الراقصات من المسرح وتُطِلُّ من النافذة .. في أثواب خفيفة … لأن تلك الليلة من ليالي فينوس …)
الجوقة:
أَنَرسيسُ هيَّا نُغَنّي مَعــــــاً ونَخلقُ جوّاً لطيـــــفَ السَّناْ
ونبعثُ فيهِ هوىً لا يموتُ …
نرسيس:
صَهٍ يا غواني .. سَيَــأتي هُناْ
الجوقة:
أَنـرسـيـسُ هـذي ليالٍ عِـــــذَابٌ تَـرَنَّـــمُ فيهـا الـدُّنَى بـالهَنَـــاْ
إلاهَـتُـنَـا في مـجــالِ الصَّفَــــــــاءِ وأقـداحُـنَا خَمْرُها المُجْتَنى ..
وفينوسُ في عِيدِها السَّرْمَديِّ ولَيْلَةُ فينـــوسَ كلُّ المُنَى ..
نرسيس:
أصيخوا سيأتي ..
الجوقة:
عَدوُّ النساءِ؟…
نرسيس:
سَيَأتيْ ـ انْطَلِقْنَ ـ مُمِيْتُ الفَنَاْ
الجوقة:
عَـدُوُّ الغَـرَامِ بِـعُـرْفِ الوجــــودِ أشَــــدُّ حـنـيـنـــاً إلى جِـنْـسِـــــناْ
لَقَدْ أَنْــكَـرَتْ رَبَّةُ الآلهـــــــــات جحوداً تَـطَـاوَلَ حـتى انــثـنـــىْ
تموتُ الحياةُ .. ويَـفْنَى الوُجُودُ وعَرْشُ الغَرامِ سَيَبْقَى الدُّنَى
ويَـخْـطُـو الخُلُــــــودُ عـلى إِثْــرِهِ وما للخُلُــــــودِ هُـدىً غَـيـرُنَـــاْ
بَـثَــقْظـنَــــــــا الحيـــــــاةَ إذا آدَمٌ تَبَدَّى .. ويَـفْنَى .. ونَـبْـقَى هُـنَاْ
لَـنَـاْ بَـعْـدَ مـيْـتَتِنَاْ في الوُجُـــــودِ صَدَىً سَـرْمَـدِيٌّ .. وخُـلْـدٌ لَنَــاْ
نرسيس:
يحاورُ مَنْ لا يُطيقُ الكلامَ ويا حَبَّذاْ …
«المشهد الرابع»
“في نفس الوقت تدخُلُ إسْمين مقاطعة”
إسمين:
لو أتيتُ أنا؟…
نرسيس:
ومَنْ أنتِ؟..
إسمين:
إسمينُ!..
نرسيس:
مَنْ؟..
الجوقة:
غَادَةٌ!.. رأتكَ فَهَامَتْ .. فَرَامَتْ مُنَى ..
وأقْسَمَ قَلبٌ بِصَدرِ الفتاةِ .. لَيَحْيا بِقُرْبِكَ بعدَ الضَّنَى ..
نرسيس: -(مقاطعاً بتأفّف)-
أَلَيسَ لكُنَّ هَوَىً في الرحيلِ؟..
الجوقة:
مَعَاذَ الإلَهةِ منْ قَبْلِنَاْ
(بإغراء)
سنمضي إلى مَهْرَجانِ الحياةِ فَـتَـدْعُوْ ونَدْعُو إلى بَعْضِنَاْ
سَنَحرِقُ مِلْءَ القُـدُورِ البَـخُورَ ومنَّــا الـقَرَابيْن في عِيــدِنَاْ
ستجري الدِّمـاءُ على مَذْبَـــــحٍ لَـــكَمْ ذَاقَ مِنَّـا دِمَــاْ قلبِنَـــاْ
نرسيس:
مَسيْرُ الدِّمَاءِ كَـسَيْرِ الدُّمُــوعِ يثيرانِ فيَّ الأَسـى والضَّنَى
الجوقة:
أتَمْضي؟..
إسمين:
وَهَلْ لزُهُورِ الحُقُولِ حراكٌ؟…
الجوقة:
سنَخْطَفُهُ بَينَنَـاْ
نرسيس:
رأيتُ الحياةَ شَذَى زَهْــرَةٍ تُـشَمُّ غَـراماً وليسَ اغْتِصَاباْ
يضيعُ العبيرُ على مُـــكْرَهٍ يَـمـجُّ التَّــذَوُّقَ والاقـتـرابــــــا
سأختارُ إسْمين لي زهرةً أشمُّ شذاها هوىً وانتخابـا
(تبتعد الجوقة على الأنغام الناعمة .. فتنهض “إسمين” وتقترب من التمثال بهدوءٍ وتؤدة ..
وفي عينيها آياتُ الإعجاب الممزوج بالدهشة …)
تسير متمهلة وهي تقول:
(الموسيقى هادئة ترافق المشهد….)
إسمين:
أَمِنْ قطراتِ الندى جسْمُها؟ …
(ثم تأخذ نفساً طويلاً)
وتضمَّخَ بـالنَفْحَةِ العاطـرهْ؟..
وداعبَ أَعْطَافَها أَنْمُــــــلُ بهِ لَمَسَـاتُ الفَتَى الحـائــرهْ؟..
ودقَّتْ على صَدرِها نَغْمَةً تجاوبُ أصـدَاؤها السّاحـرهْ؟..
كأنيّ بهذا البريقِ العجيبِ حَبَاهُ المِفَنُّ الدُّمَى النافِـرَهْ!..
عُيُونٌ بها رَقْصَـــةٌ كُـــلُّها جُـنُـونٌ وفَـنُّ رؤىً شـاعرهْ!..
ومــــا ذَبُلَـــتْ عينُها إنَّمــــا خَبَــاها المَضَاءَ إلى الآخــرهْ!..
نرسيس:
دعيها بـربِّكِ عـند الهُدُوءِ تناجي الخُلُودَ .. دَعيْ السَّادرهْ!..
إسمين: -(شبه ثائرة وملتفتة نحوه)-
أَلَيْسَ الجَمَالُ تبدّى لَنَـــــا لنغرفَ مــن بحــــــرهِ قُـوْتَـنَــاْ
وإلّا لماذا خَلَقْنا الجمـــــالَ أللدَفْنِ بينَ مطـــــاوي الفَنَـاْ
ثلاثة يُقْتَلُ منها الجمـــالُ ويغــدو كــأنْ لـمْ يَـبِــنْ بـيـنَـنَاْ
إذا نَالَ منهُ الجمودُ قَضَى وَحَـقٌّ علـيـهِ الصـــــفا والهَـنَــاْ
وإمّــا تمادى ببثِّ الـــدَّلالِ وبـعضُ الـدَّلالِ يـزيــدُ الضَّـنَى
وإمَّا تَدنَّــــسَ في عِهْـــرِهِ وعرشُ الجمـالِ طَهُـورُ الدُّنَى
نرسيس:
دعيني منَ الفَلسَفَاتِ العتاق وقومي … فقد يَتَبَدَّى هنـــا
إسمين:
(ترفع طرف الستار بخشوع …. (موسيقى رائعةٌ ناعمة).. ثم لا تلبث أن تهتفَ بروعةٍ وخضوع)
أيَا وَيْحَ “بِجْمالِ” في فَنِّـهِ تَـطَاوَلَ حتَّى على الآلهـــهْ!!
فَـصَـبَّ الجـمـالَ على عـاجةٍ تكادُ تُزيحُ الجُمُودَ جِهَـــهْ..
وحَقِّ الجمالِ رأيتُ الجَمَالَ يُفِيضُ عليها سَنا الأُبَّهَهْ!..
(موسيقى هادئة)
وحَقِكِ يا جالُ ما صَنْعَةٌ صُنِعْتِ .. ولكنكِ الآلِههْ!!!..
نرسيس:
دعيني!..
إسمين: -(دون أن تلتفت إليه)-
مُحَالٌ ..
نرسيس: -(بذعرٍ)-
دعيها!..
إسمين: -(بزجرٍ ناعمٍ)-
صَهٍ!.. ففيها غذاء الرؤى التائههْ
نرسيس: -(بتوسُّلٍ)-
دعي الدُّرَّةَ الحُلْوَةَ النَّابهَهْ! ..
إسمين:
(وهي تسير إلى الجهة الثانية من المسرح .. والموسيقى في أشد روعتها وهدوئها)
وحقكِ يا جالُ ما صَنْعَةٌ صُنِعْتِ .. ولكنكِ الآلههْ!!
(الموسيقى لا تزال تصدح بنعومةٍ فائقة.. هي موسيقى تصويريّة .. إسْمين … تسير بهدوءٍ وروعةٍ…
تُغيّرُ الأضواءُ بأخْفَتَ منها .. ثم تبدأ إسْمين بمناجاةِ نفسها .. والموسيقى مرافقة لها..)!
إسمين:
ليسَ في الكَونِ غَيرُ قَلبٍ مُعَنَّى يَـمـلأُ الكَونَ ضَجَّةً وصِيَاحاْ ..
حَطَمَ الصَدْرَ واستساغ الفـرارَ المُرَّ مِنْ حَمْـأةِ الجنونِ مَرَاحاْ..
هو راعٍ .. يَـسوسُ منـي حياتي .. فإذا ما قَسَى..تَنَاسى المُبَاحَاْ ..
وانثنى يطعنُ الحيـاةَ .. ويُـضْوي الجسْمَ حيناً .. ويُذْهِلُ الأَروَاحَاْ
كُلَّـمَـا ضــاقَت الأمُــورُ عــلـيـه .. أغرزَ الخَنْجَرَ الرهيـفَ .. ورَاحَـــاْ..
تعتريني الآلام..من طعنةِ القَلبِ.. فأُمشي من الفراش صَـبَاحاْ..
ليس نرسيسُ .. غيرَ داءٍ ولكـن .. قد تُمِيتُ الجِراحُ فيـهِ الجِرَاحَاْ ..
(فاصل موسيقي .. تجلس إسمين …. صمت .. ثم تتلاشى الموسيقى شيئاً فشيئا… فينتبه نرسيس .. فيطلق ضحكةً .. خفيفة)
نرسيس:
أتــدرينَ مــا قـــالَ لي صَـاحـبي بـلهـجتِـهِ الحُلوَةِ الناشـئـهْ؟..
لـقـد قـــال لي: إنـنـي صَــدْفَـةٌ خَلَا جَوْفُها من سَنا الُلّؤْلُؤَهْ!..
إسمين:
تَـعَالَ إليَّ أُذِقْكَ الحيـــــــاةَ فمفتَـاحُ أبوابِها الإمــرأهْ!!!..
ويَبقى الـوجودُ دُمَى سلوةٍ تُقَلِّبُــها كَفُّهَا الـهــــازئــــهْ…
ســـأملأُ قَـلـبَكَ نـوراً يفيضُ لتُشعِلَ جَمْرَ الهَوَى المُطفَأهْ ..
وأبعثُ فـيـكَ هـــوىً جارفـاً فتَحسَبُهُ النشـوَةَ الطــارِئَــــهْ!!..
وأسكب فيكَ الشعورَ الدفيقَ لـتغرقَ في اللجَّةِ الـظامئهْ!!
(موسيقى خفيفة)
نرسيس: -(يعيدُ أقوالها وكأَنَّهُ حالمٌ باستفهام)-
تَعَالَ… إليَّ … أذقْكَ … الحياةَ … فمفتاحُ … أبوابها …. الإمرأهْ؟…
وكيف تُذَاقُ الحياةُ؟..
إسمين:
(بَهِجةً .. تختطفه من يده بعد أنْ تنقطع الموسيقى .. وتجرُّه نحو الباب)
تَعَالَ .. فَمِفْتَاحُ أبوابها الإمرأهْ!!!
(يخرجان)
«المشهد الخامس»
اصل موسيقي .. ألحان على الكمان .. ناعمة كأنها ابتهال …)
(تقترب من المسرح فينوس .. ومعها أبُّولون ..
يُسمَعُ صوتُ بجمليون آتٍ من بعيد وهو يبتهل …)
(تبقى الموسيقى مرافقة لابتهاله ..)