مَصْرَعُ المَثَّالِ 

تأليف زهير ميرزا عام  1942 م – 1361 هـ

مسرحية شعرية موسيقية

في ثلاثة فصول

مصرع-المثال_اهداء

مهداة 

إلى مُلْهِمِنيهَا 

الأستاذ توفيق الحكيم

تقضي الأمانةُ الأدبيةُ أن أُشيرَ إلى أنَّ الفضلَ في اختيار هذه الأسطورة لتكونَ مادةً لمسرحيتي، يرجعُ إليكَ يا سيدي الأستاذ الفنان الحقَّ توفيق الحكيم! لأنكَ استطعتَ بلُدُونةِ قلمِكَ أنْ تُغلغلَ في أطوائي سحرَ هذه الأسطورةِ لمَّاْ نشرتَها في كتابكَ الفنيّ “بجمليون”. فأخذتُ عن قلمكَ هذا السِّحْرَ الذي رَشَقْتَهُ بعبقريتكَ بين أحرفِ المطبعةِ الجامدة، فأحَلْتَها إلى مخلوقاتٍ حيَّةٍ متحرّكةٍ لها سحرُها ولها تأثيرُها العميق، وحيويتُها الصارخة. 

                                                                                                                                                     دمشق. زهير ميرزا

هَمْسَة

        قبل أن أفكّرَ في طبع هذه المخطوطة، عرضتُها على مئة شخص وشخص؛ ولا استطاعوا أنْ يفسحوا لها في وعيهم مجالاً؛ أو إن شئتَ، ما استطاع وعيُهم أن يتفهَّم ما رميتُ إليه، لأنه أبعدُ بكثير من مفهومهم السطحيّ المحدود.

           وعدتُ إلى نفسي غداةَ انتهيتُ من عرض نماذجها، وعرضتُها على نفسي من جديد علَّني أُنكرُ منها شيئاً، فما أنكرتُ. فتساءلتُ: فيمَ تلك الفئة ما فهمت عنّي، أو فيمَ مفهومي ما استقرَّ في وعي تلك الفئة؟ فرددتُ ذلك إلى أمرين جوهريين:

      أولُهما: لم تستقرّ بعدُ في أذهان الناس فكرة “إرسال الشعر مع الموضوع” ولا أقصد بهذه عينَ فكرة الشعر المرسل”، الذي حاول الأستاذ “درّيني خشبة” أن يعرّفَهُ فقال ما معناه: “الشعر المرسل هو الشعر الذي يتخلَّص من قافيته؛ لأن القافية آسرٌ للفكرة يقيّدها بقيد محدود”، ومن ثَمَّ أتى بأمثلة للشعر المرسل للدكتور طه حسين. وفي رأيي الخاصّ، إنَّ مفهومَ الأستاذ “درّيني خشبة” للشعر المُرسل، مفهومٌ سطحيٌّ لا أكثر ولا أدنى. فقد لاحظ على ما يظهر ـ أنَّ بعض الشعراء يُرغَمون على وضع لفظةٍ في القافية قد تُخالف ما يرغبون في التعبير عنه فقال ما قال.

        أما أنا، فلست مع الأستاذ في هذه الفكرة مطلقاً. نحن ندعو ـ بل يجب أن ندعو ـ إلى فكرة الشعر المرسل؛ ولكن ليس عن طريق التنازل عن القافية! لأنَّ القافية هي ذلك الإيقاعُ العذبُ الذي يُرافق موسيقى الشِّعر. وأيُّ شعر؟ هو الشعر العربي بصورة خاصة! ولمَّا كان يتميَّزُ بإيقاعه وتساوقه ومقاطعه، فقد وجَبَ حتماً أن يُرافقَ ذلك كلّه مرحلةٌ انتهائيةٌ موسيقية، تُبَقِّي في أحناء الإنسان صدىً بعيداً جداً، هو نفس ذلك الصَّدى الذي يُطربك عندما يضرب عازف العود على عوده؛ فهل أنتَ تطربُ من تلك الضربة على الوتر، أمْ تطربُ من الصَّدى الذي يتسرَّبُ من تأثير الضربة على الوتر؟… لاشكَّ أنك تكون مطروباً عندما يغني مُغَنٍّ، أو يعزف عازف، ولكنك ولا ريب تكون أكثر طرباً عندما ينتهي. إنَّ تلك الفترة أو المُلاوة التي تعقب الغناءَ أو العزفَ، هي الفترة التي تطرب فيها وتعي النغمَ تماماً؛ لذا نرى أنَّ يديك قد اندفعتا للإعراب عن الإعجاب بتصفيقٍ حادٍّ، أو بإرسال أصواتٍ مِنْ فيكَ تؤدي نفسَ الغرض.

        فالشعر العربيُّ لا يمكن ولا بوجهٍ من الوجوه أن يتخلَّص من القافية، لأنها مِيزَتُه الخاصَّة، وصفته المُميِّزة. إذنْ، نحن لمَّا ندعو إلى “الشعر المرسل” أو إلى “إرسال الشعر مع الموضوع” إنَّما ندعو إلى تحرير الشعر العربيّ مِنْ رِبْقةِ وحدة البيت، أو التحرّر من رِبْقةِ التصنُّع في رصْفِ الألفاظ بعضها إلى جانب بعض، وإنَّ نظرةً واحدةً متعمِّقةً تُلقى على بعض مقطوعات “أفاعي الفردوس” للشاعر أبي شبكة، تعطيكَ فكرةً صادقةً عما أرمي إليه. وإنَّ الدعوة لمثل هذه الفكرة، معقولةٌ مقبولة، لا تمسُّ جوهر الشعر، وإنَّما تجعله يساير التطوّر مسايرةً تُلمَسُ.

       ثانيهما: الذي ألِفَتْهُ أسماع الناس من الشعر العربيّ، هو ذلك النوع الجامد المتحجِّر، الذي لا يؤدّي فكرةً ولكنَّه يهزُّ شعوراً. وهنا مجالُ التساؤل فسيحٌ، إذ: كيف لا يؤدّي فكرةً ولكنَّه يهزُّ شعوراً؟ .. والجواب على ذلك سهلٌ هيِّن:

        هَبْ نفسكَ ـ أنت أيُّها القارئُ الكريم ـ في جمعٍ زاخرٍ في يومٍ ثائر، أيْ كنت بسبب ابتهاجٍ بقدومٍ أو اندفاعٍ  نحو غاية، وتوالى على المنبر خطيبان، أحدُهما بدأ يشرحُ لك بصوتٍ هادئٍ مُتَّزنٍ وادعٍ فلسفة التهيُّج، وأخذ يشرح لك بأناةٍ سبب الحادث من الناحية المنطقية ومُسَبّبَهُ، فهل يمكن لهذا الخطيب ـ على ما أُوتيَ من تفكيرٍ عميق وتفهُّمٍ أعمق، وتبسيطٍ أدقّ وبلاغةٍ بيانيّة ـ أن يبعثَ في نفسكَ ما يبعثُه خطيبٌ مفوَّهٌ جهوريُّ الصوتِ حادُّ النبرات، مُتقِّدُ العينين، أحمرُ الوجه، كبيرُ الفمِ عندما يهيبُ بك: هيَّا!؟ .. كلا حتماً! 

        إنَّ قولَ الثاني، الخالي من الفكرةِ البعيدةِ والمَرمى سوى السَّير إلى أمام، لَيَفْعَلُ فيكَ ما لم يفعلْه الأول. والسبب في ذلك واضحٌ بيِّن؛ إذ أنَّ طبيعتك الحماسيَّة تتطلَّب رجلاً ذا صوتٍ أجشَّ، ونبرةٍ قويّةٍ حادّة. وهنا فقط، نستطيع أن نقول: إنَّ قولَةَ هذا الخطيب المُندفع لم تؤدِّ فكرة، ولكنها هزَّت شعوراً.

       وكذلك الناسُ حتى يومنا هذا، فهم يتطلبون من الشاعر أن يهزَّ شعورهم، لا أن يؤدّيَ لهم فكرة. أولمْ يقل الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزَّهاوي:

                          إذا الشعر لم يهزُزْكَ عند سماعه             فليس خليقاً أنْ يُقالَ له شعرُ

وألمْ يقل أستاذُنا الشاعر الفحل محمَّد البزم:

                          الشعر مـا مـلأ الأسمــاع قاطـبــةً              وخـــالَـــهُ ربُّــــهُ وحـيـــاً وإلهامــا

        ماذا نستطيع أن نستخلصَ من هذين الرأيَيْن لشاعرين فحلين؟ إننا لن نخرج إلاّ بالشعر الذي يهزُّكَ هزَّاً ولا يؤدِّي لك فكرة.

        كنتُ أقول: وكذلك الناس حتى يومنا هذا، فهم يطالبون الشاعر أو يتطلبون منه أنْ يهزَّ شعورهم لا أن يؤدّي لهم فكرةً؛ ومن هنا يتضّحُ تماماً لماذا لم يفهم عنّي مئةُ شخص وشخص لمَّا عرضت عليهم هذه المسرحية.

       إنَّ هذه المسرحية لا تهزُّك هزّاً، ولكنها تؤدّي لك فكرة؛ وبقدر ما يكونُ وعيُكَ على استعدادٍ لتَفَهُّمِ الفِكْرِ، يكونُ اهتزازُكَ. وأيُّ اهتزاز؟ .. هو الاهتزازُ الناشئُ عن التفهُّم، وبَعدَ إعمال الرويَّة، لا الذي يهزُّكَ عند سماعه! ..

فأنا إلى هذا النوع من الشعر أدعو، وإلى هذه الفكرة أرمي.

      أريدُ شعراً مرسلاً مع الموضوع، يتقيَّد بقيود القافية التي تتمشَّى والفكرةَ بقدر ما تكونُ الشاعريةُ غزيرةً فيّاضةً، أو مقتصدةً ناضبة.

        وعندما ننتقل بك ـ أيها القارئ العزيز ـ إلى تحليلات شخصيات المسرحية؛ ستجد الأمثلة الحيَّة على هذا النوع من الشعر الذي ندعو إليه. والإخلاصُ من وراء القصد.

                                                                                                                                             1944/2/23  زهير ميرزا

أصل الأسطورة ما معناه:

نحت “بجمليون” – وهو المثّال القدير – تمثالاً رائعاً من العاج – وقيل من غيره – أسماه “جالاتيا” أحبه حتى عبده. ثم طلب إلى الآلهة أن تنفخ فيه من روحها. فما أن دبت الحياة في “جالاتيا” حتى فسدت! فعاد “بجمليون” يطلب إلى الآلهة أن تعيدها تمثالاً ففعلت ثم حطم التمثال.

                  الصديق

 أيهــذا الإنســان قدّســـك الله وصبّ الإخـــلاص في أعراقـــك

  ونضا عنك صبغة اللؤم في الفجر، بيوم الميـلاد، عند انطلاقك

 وحبــاك الفــؤاد ينبض بــالحس لتأسو الجـــراح مـن إشـفاقـــك

 وسقاك الحنان في أكؤس الحب لتروي الظمـــآن من أخلاقك

  ثـم سـمّاك بـ “الصديق” !. وإن كنتَ خيـالاً لم تـأتِ بعد انبثاقك!!

                                                                               1943/3/14

مصرع المثَّال

 

 “مَـاْ لبجْمَلْيْونَ أوْ مِنْقَاْشِهِ            دَغْدَغَا رُوْحَ الرُّخَاْمِ الجَاْمِدهْ

  فــأَحــــاْلاْهَاْ إلـــى آلِهَــــــة             تُعْبَدُ اليَوْمَ، وَكَاْنَتْ عَاْبِدَهْ؟”

                                                                        “زهير”

 

شخصيات المسرحية

بِجْمَليُون:        مثَّال، في الخامسة والستين من عمره، أبيض شعر الرأس، زائغ البصر …

جَالَاتيَا:            التمثال الرخامي

أولاً:                معبود بجمليون. 

ثانياً:                فتاة رائعة الجمال في التاسعة عشرة من سنيِّ حياتها.

نِرْسيس:        شابٌّ في العشرين من عمره. صديق بجمليون الوحيد. ثم حبيب “إسمين” ثانياً.

إسْمِيْن:          عاشقة نرسيس، في الثامنة عشرة من حياتها. فتاة هائجة.

أبُّولون:           إلَه الموسيقى والفنّ، صديق بجماليون بالعاطفة، وزميل “فينوس”، وصديقها أيضاً.

فينوس:         إلهة الحُبِّ والجمال. 

جوقة موسيقية راقصة، مُغَنٍّ.

** الفصل الأول **

المسرح

««ليلة من ليالي فينوس»»

(الوقتُ مساءً .. الظلام يكتنفُ الغابة البادية من وراء المسرح، ويغمر المسرحَ أيضاً إلاّ من نورٍ أخضر يغمرُ بعض جوانبه. في الجانب الآخر، ستارٌ من الدانتيلا شفافٌ؛ يُخفي بصورةٍ بسيطة، تمثالاً من الرُخامِ قائماً رمزاً للجمال، هو تمثال “جالاتيا”..

في جوانب باقي المسرح، بضعةُ مقاعد نصف مهشَّمة .. عليها أدوات النحت وبقية قطع رخامية. )

«المشهد الأول»

“بجمليون”… يذهب ويغدو، وبين يديه منقاشُه … يرميه من يده بعد فترة ذهاب وإياب، ثم يقترب من الستار ويكشفه عن التمثال .. ويقف قليلاً متأمّلاً، ونورُ القمر الفضيِّ مُنصَبٌّ على التمثال … موسيقى هادئة خفيفة، تبدو كأنها آتية من بعيد، وتستمر طيلة المشهد الأول.

بجمليون: -(مخاطبا التمثال)-

                جــالاةِ .. يا حُلمي الجميـل .. ويا لحُوني الناعمهْ..

                يا قُبْلَةَ الطَّلِّ النديِّ على الزهــــــور النائمــــهْ..

                يا نبتةً، جاءَ الربيعُ بهــــا يُنيـــــــرُ مَعَالِمَـــــهْ..

                ما أنتِ بنتُ الأرضِ حيـــثُ النَّفْسُ فيها جاثمهْ..

                بَلْ أنتِ، زنْبَقَةُ الريـــاضِ إلى القلوبِ الحالِمهْ ..

               جالاةِ .. يــا لحنَ الخـلودِ .. بـذي الـدُّنَى المُـتَـقَطِّـعـــهْ..

               قومي .. فقد جـاءَ الربيعُ مع الهوى، فامشي مَعَهْ..

              وتَبَـسَّـميْ عَـنْ ثغـركِ الـوَرْديِّ.. تُــزْهي مَـرْتَـعَــــــــهْ..

              مـــا هـكـذا الوَجْـــهُ المُنيرُ يغيبُ .. فـارْميْ بُرْقُعَـــــهْ..

              واستقبلي عرشَ الجمالِ .. وإنْ خُــلِقْتِ مَـنْبَعَــــــه ..

                جــالاةِ … قلبي قَـدْ رعـاكِ … وضَـمَّ حُبَّــــكِ بَيْـنَـهُ ..

                قد صَاغَ جِسْمَكِ مَنْ نُهاهُ … فَنَالَ رُوحُك عَينَهُ ..

                أَتُصَـدِّقي المِـنْـقـاشَ إنْ أَضْحَى يُقيْمُـــكِ فَـنَّــــهُ؟…

                أينَ الذي سَـهِـرَ النـجـومَ يُـذيْبُ فيــــكِ فُنُـــونَهُ؟…

                بَـلْ أينَ مِـنْـقاشُ الإلَــــــهِ يَصوغُ مـثـلَـــكِ أيــنـهُ؟؟؟ 

                جــالاةِ .. بتِّ خُـلاصَـــةَ الفـنَّـانِ .. بَـلْ وَجُـنُـونَــــهُ!!!

“ثم ينحرف قليلاً ويغادرُ المسرحَ ببطء من طرفه … ثم يدخل “نرسيس” من الطرف الثاني وكان يستمع إلى مناجاة “بجمليون”.. يدخلُ متمهّلاً .. شاردَ النظر … يقتربُ من التمثال … والموسيقى لا تزال تملأ الجوَّ ناعمةً”

«المشهد الثاني»

نرسيس: -(بتؤدةٍ)-

قَدْ هَامَ بجمليــــونَ في تمثالِــــــهِ       عَـبَــدَ الإلَــــــهُ صَـنِـيــعَـــةً لــيَــدَيــــــــهِ .. 

رَشق الجَمَالَ عَليه حتى كادَ مِــنْ        حُـسْــنِ الصـنـــاعَـةِ أنْ يـسـيـرَ إليـــهِ …

مِنْقاشُهُ منْ رُوحِهِ أَخَــــذَ الهُــدى       فَــرَمَــتْ أنــــامــلُــه الـكـمــــالَ عَليــهِ .. 

نَقَشَتْ أصابعُهُ الرفيقَةُ ثَغْـــــــرَهُ       حتى كـــأنَّ الـلَّـفْـظَ في شَــفَـتـيــــــهِ …

وحَنَتْ على العينين تَبعثُ فيهما       وهـــجـــاً. فـفـاضَ السِّــحْرُ مـنْ عَينَيهِ 

وتَلَمَّسَتْ صَـدْراً فـأنضَـــجَ فَنُّــــــهُ       فــجَّ الثِّـمَــــــــارِ، فَـكَـوَّنَتْ نَـهْــدَيــــــهِ .. 

تجري الدِّمـا دفَّـاقـــــة بِعُرُوقِــــــهِ       أوْ قُـــلْ تُــخُــيِّــلَ ذاكَ في فَــرْعَـيْــــهِ …

شريانُـهُ الوَرْديّ خَـضَّـبَ عـــابثــــــاً       بــخُــضَــابِ حُـمْـرَتِــــهِ دُنَى خَــــدَّيــــــهِ … 

وتهدَّلَتْ خُـصـلاتُ شَـعْرٍ فاحــــمٍ       كَــسَــتْــهُ سِــحْــراً، والظِــلالُ عَـلَـيـــهِ .. 

جـسـمٌ أُنُـوثيٌّ، تَـفَـجَّـــــرَ نَـبْـعُـــــــــهُ       عَــنْ شَـهْـوَةٍ .. فــاهْــمِسْ إلى أُذُنَيهِ ..

ويَــضُــوعُ عِـطـــرُ الــــفَـــنِّ مِــــــنْ        أطرافِهِ فَنٌّ يموتُ الفنُّ بينَ يَدَيــهِ!!!.. 

تترقرقُ الحيواتُ منْ قَسَمـــــاتِــهِ        قَــدْ صـيْـغَ تـمـثـــالاً يُـخَـــرُّ لَــــــدَيــــــهِ!!.

م2

«المشهد الثالث»

 (تقترب بعض الراقصات من المسرح وتُطِلُّ من النافذة .. في أثواب خفيفة … لأن تلك الليلة من ليالي فينوس …)

الجوقة:

                   أَنَرسيسُ هيَّا نُغَنّي مَعــــــاً              ونَخلقُ جوّاً لطيـــــفَ السَّناْ

                   ونبعثُ فيهِ هوىً لا يموتُ …

نرسيس:

                                                                     صَهٍ يا غواني .. سَيَــأتي هُناْ

الجوقة:

                  أَنـرسـيـسُ هـذي ليالٍ عِـــــذَابٌ         تَـرَنَّـــمُ فيهـا الـدُّنَى بـالهَنَـــاْ

                  إلاهَـتُـنَـا في مـجــالِ الصَّفَــــــــاءِ        وأقـداحُـنَا خَمْرُها المُجْتَنى ..

                  وفينوسُ في عِيدِها السَّرْمَديِّ        ولَيْلَةُ فينـــوسَ كلُّ المُنَى ..

نرسيس:

                  أصيخوا سيأتي ..

الجوقة:

                                     عَدوُّ النساءِ؟…

نرسيس:

                                                                 سَيَأتيْ ـ انْطَلِقْنَ ـ مُمِيْتُ الفَنَاْ

الجوقة:

                 عَـدُوُّ الغَـرَامِ بِـعُـرْفِ الوجــــودِ           أشَــــدُّ حـنـيـنـــاً إلى جِـنْـسِـــــناْ

                 لَقَدْ أَنْــكَـرَتْ رَبَّةُ الآلهـــــــــات            جحوداً تَـطَـاوَلَ حـتى انــثـنـــىْ 

                 تموتُ الحياةُ .. ويَـفْنَى الوُجُودُ            وعَرْشُ الغَرامِ سَيَبْقَى الدُّنَى

                 ويَـخْـطُـو الخُلُــــــودُ عـلى إِثْــرِهِ            وما للخُلُــــــودِ هُـدىً غَـيـرُنَـــاْ

                 بَـثَــقْظـنَــــــــا الحيـــــــاةَ إذا آدَمٌ            تَبَدَّى .. ويَـفْنَى .. ونَـبْـقَى هُـنَاْ

                 لَـنَـاْ بَـعْـدَ مـيْـتَتِنَاْ في الوُجُـــــودِ            صَدَىً سَـرْمَـدِيٌّ .. وخُـلْـدٌ لَنَــاْ

نرسيس:

                 يحاورُ مَنْ لا يُطيقُ الكلامَ            ويا حَبَّذاْ …

«المشهد الرابع»

  “في نفس الوقت تدخُلُ إسْمين مقاطعة”

إسمين:

                                                                                                 لو أتيتُ أنا؟…

نرسيس:

                                ومَنْ أنتِ؟..

إسمين:

                                                  إسمينُ!..

نرسيس:

                                                                    مَنْ؟..

الجوقة:

                                                      غَادَةٌ!.. رأتكَ فَهَامَتْ .. فَرَامَتْ مُنَى ..

            وأقْسَمَ قَلبٌ بِصَدرِ الفتاةِ ..            لَيَحْيا بِقُرْبِكَ بعدَ الضَّنَى ..

نرسيس: -(مقاطعاً بتأفّف)-

                أَلَيسَ لكُنَّ هَوَىً في الرحيلِ؟..

الجوقة:

                                                                           مَعَاذَ الإلَهةِ منْ قَبْلِنَاْ

                                         (بإغراء)

    سنمضي إلى مَهْرَجانِ الحياةِ          فَـتَـدْعُوْ ونَدْعُو إلى بَعْضِنَاْ

    سَنَحرِقُ مِلْءَ القُـدُورِ البَـخُورَ          ومنَّــا الـقَرَابيْن في عِيــدِنَاْ

    ستجري الدِّمـاءُ على مَذْبَـــــحٍ          لَـــكَمْ ذَاقَ مِنَّـا دِمَــاْ قلبِنَـــاْ

نرسيس:

    مَسيْرُ الدِّمَاءِ كَـسَيْرِ الدُّمُــوعِ          يثيرانِ فيَّ الأَسـى والضَّنَى

الجوقة:

             أتَمْضي؟..

إسمين:

                                         وَهَلْ لزُهُورِ الحُقُولِ         حراكٌ؟…

الجوقة:

                                                                                      سنَخْطَفُهُ بَينَنَـاْ

نرسيس:

      رأيتُ الحياةَ شَذَى زَهْــرَةٍ              تُـشَمُّ غَـراماً وليسَ اغْتِصَاباْ

      يضيعُ العبيرُ على مُـــكْرَهٍ               يَـمـجُّ التَّــذَوُّقَ والاقـتـرابــــــا

      سأختارُ إسْمين لي زهرةً               أشمُّ شذاها هوىً وانتخابـا

(تبتعد الجوقة على الأنغام الناعمة .. فتنهض “إسمين” وتقترب من التمثال بهدوءٍ وتؤدة ..

وفي عينيها آياتُ الإعجاب الممزوج بالدهشة …)

تسير متمهلة وهي تقول:

(الموسيقى هادئة ترافق المشهد….)

إسمين:

                      أَمِنْ قطراتِ الندى جسْمُها؟ …

(ثم تأخذ نفساً طويلاً)

                                                                     وتضمَّخَ بـالنَفْحَةِ العاطـرهْ؟..

     وداعبَ أَعْطَافَها أَنْمُــــــلُ         بهِ لَمَسَـاتُ الفَتَى الحـائــرهْ؟..

      ودقَّتْ على صَدرِها نَغْمَةً         تجاوبُ أصـدَاؤها السّاحـرهْ؟..

       كأنيّ بهذا البريقِ العجيبِ          حَبَاهُ المِفَنُّ الدُّمَى النافِـرَهْ!..

       عُيُونٌ بها رَقْصَـــةٌ كُـــلُّها          جُـنُـونٌ وفَـنُّ رؤىً شـاعرهْ!..

        ومــــا ذَبُلَـــتْ عينُها إنَّمــــا          خَبَــاها المَضَاءَ إلى الآخــرهْ!..

نرسيس:

       دعيها بـربِّكِ عـند الهُدُوءِ         تناجي الخُلُودَ .. دَعيْ السَّادرهْ!..

إسمين: -(شبه ثائرة وملتفتة نحوه)-

       أَلَيْسَ الجَمَالُ تبدّى لَنَـــــا           لنغرفَ مــن بحــــــرهِ قُـوْتَـنَــاْ

       وإلّا لماذا خَلَقْنا الجمـــــالَ          أللدَفْنِ بينَ مطـــــاوي الفَنَـاْ

       ثلاثة يُقْتَلُ منها الجمـــالُ         ويغــدو كــأنْ لـمْ يَـبِــنْ بـيـنَـنَاْ

       إذا نَالَ منهُ الجمودُ قَضَى         وَحَـقٌّ علـيـهِ الصـــــفا والهَـنَــاْ

       وإمّــا تمادى ببثِّ الـــدَّلالِ         وبـعضُ الـدَّلالِ يـزيــدُ الضَّـنَى

       وإمَّا تَدنَّــــسَ في عِهْـــرِهِ         وعرشُ الجمـالِ طَهُـورُ الدُّنَى

نرسيس:

       دعيني منَ الفَلسَفَاتِ العتاق     وقومي … فقد يَتَبَدَّى هنـــا

إسمين:

(ترفع طرف الستار بخشوع …. (موسيقى رائعةٌ ناعمة).. ثم لا تلبث أن تهتفَ بروعةٍ وخضوع)

              أيَا وَيْحَ “بِجْمالِ” في فَنِّـهِ تَـطَاوَلَ حتَّى على الآلهـــهْ!!

              فَـصَـبَّ الجـمـالَ على عـاجةٍ تكادُ تُزيحُ الجُمُودَ جِهَـــهْ..

               وحَقِّ الجمالِ رأيتُ الجَمَالَ يُفِيضُ عليها سَنا الأُبَّهَهْ!..

                                                             (موسيقى هادئة)

وحَقِكِ يا جالُ ما صَنْعَةٌ           صُنِعْتِ .. ولكنكِ الآلِههْ!!!..

نرسيس:

                            دعيني!..

إسمين: -(دون أن تلتفت إليه)-

                                                   مُحَالٌ ..

نرسيس: -(بذعرٍ)-

                                                                                                   دعيها!..

إسمين: -(بزجرٍ ناعمٍ)-

                                                  صَهٍ!.. ففيها غذاء الرؤى التائههْ

نرسيس: -(بتوسُّلٍ)-

                                      دعي الدُّرَّةَ الحُلْوَةَ النَّابهَهْ! ..

إسمين:

(وهي تسير إلى الجهة الثانية من المسرح .. والموسيقى في أشد روعتها وهدوئها)

           وحقكِ يا جالُ ما صَنْعَةٌ               صُنِعْتِ .. ولكنكِ الآلههْ!!

(الموسيقى لا تزال تصدح بنعومةٍ فائقة.. هي موسيقى تصويريّة .. إسْمين … تسير بهدوءٍ وروعةٍ…

تُغيّرُ الأضواءُ بأخْفَتَ منها .. ثم تبدأ إسْمين بمناجاةِ نفسها .. والموسيقى مرافقة لها..)!

إسمين:

ليسَ في الكَونِ غَيرُ قَلبٍ مُعَنَّى       يَـمـلأُ الكَونَ ضَجَّةً وصِيَاحاْ ..

 حَطَمَ الصَدْرَ واستساغ الفـرارَ        المُرَّ مِنْ حَمْـأةِ الجنونِ مَرَاحاْ..

 هو راعٍ .. يَـسوسُ منـي حياتي ..   فإذا ما قَسَى..تَنَاسى المُبَاحَاْ ..

وانثنى يطعنُ الحيـاةَ .. ويُـضْوي     الجسْمَ حيناً .. ويُذْهِلُ الأَروَاحَاْ

 كُلَّـمَـا ضــاقَت الأمُــورُ عــلـيـه ..    أغرزَ الخَنْجَرَ الرهيـفَ .. ورَاحَـــاْ..

 تعتريني الآلام..من طعنةِ القَلبِ..                                                                                                                        فأُمشي من الفراش صَـبَاحاْ..

ليس نرسيسُ .. غيرَ داءٍ ولكـن .. قد تُمِيتُ الجِراحُ فيـهِ الجِرَاحَاْ ..

(فاصل موسيقي .. تجلس إسمين …. صمت .. ثم تتلاشى الموسيقى شيئاً فشيئا… فينتبه نرسيس .. فيطلق ضحكةً .. خفيفة)

نرسيس:

 أتــدرينَ مــا قـــالَ لي صَـاحـبي         بـلهـجتِـهِ الحُلوَةِ الناشـئـهْ؟..

 لـقـد قـــال لي: إنـنـي صَــدْفَـةٌ         خَلَا جَوْفُها من سَنا الُلّؤْلُؤَهْ!..

إسمين:

 تَـعَالَ إليَّ أُذِقْكَ الحيـــــــاةَ                   فمفتَـاحُ أبوابِها الإمــرأهْ!!!..

 ويَبقى الـوجودُ دُمَى سلوةٍ                تُقَلِّبُــها كَفُّهَا الـهــــازئــــهْ…

 ســـأملأُ قَـلـبَكَ نـوراً يفيضُ        لتُشعِلَ جَمْرَ الهَوَى المُطفَأهْ ..

 وأبعثُ فـيـكَ هـــوىً جارفـاً         فتَحسَبُهُ النشـوَةَ الطــارِئَــــهْ!!..

 وأسكب فيكَ الشعورَ الدفيقَ        لـتغرقَ في اللجَّةِ الـظامئهْ!!

                                  (موسيقى خفيفة)

نرسيس: -(يعيدُ أقوالها وكأَنَّهُ حالمٌ باستفهام)-

                    تَعَالَ… إليَّ … أذقْكَ … الحياةَ … فمفتاحُ … أبوابها …. الإمرأهْ؟…

                    وكيف تُذَاقُ الحياةُ؟..

إسمين:

(بَهِجةً .. تختطفه من يده بعد أنْ تنقطع الموسيقى .. وتجرُّه نحو الباب)

                    تَعَالَ .. فَمِفْتَاحُ أبوابها الإمرأهْ!!!

(يخرجان)

«المشهد الخامس»

اصل موسيقي .. ألحان على الكمان .. ناعمة كأنها ابتهال …)

(تقترب من المسرح فينوس .. ومعها أبُّولون ..

يُسمَعُ صوتُ بجمليون آتٍ من بعيد وهو يبتهل …)

(تبقى الموسيقى مرافقة لابتهاله ..)

                                                        فينوس!… مـا ذنبُ الفؤاد إذا أقامــــكِ مَعْـبَدَهْ!.. 

                                                        يا رَبَّــةَ الـتَّـحْنَــان! ذُوْدي عــن فــــــؤادي كَــمَـــــدَهْ

                                                        أضْــويتُ قـلبي في هـــواهـــا، عــلَّ أروي كَــــــبِدَه

                                                        مــا الحب إلّا حـــالــــةٌ، قـــدْ تُفقِــــــدُ القـلــــبَ دَدَهْ

                                                        إن شئتِ، كان مُعَذّباً، أو شئتِ كُـنتِ المُســـعِدَهْ

                                                        فهَبي المُحبَّ سعـــادةً من بعــــدِ ما قـدْ وَجَـــدَهْ

                                                        “جالاةِ” حُلمي .. فانفخي روحاً، لــتـحيــا مُـســعَـدَهْ!

                                                                                              (تلتفت “فينوس” إلى “أبولون”)

فينوس:

                                                        هلْ تسمع الشكوى معي؟ ماذا ترى يا أبُّلُوْنْ

                                                        هـو يـرتـجـي أنْ أنـفـحَ التمثالَ روحــاً وعِـضِـيْـنْ

 (يتعالى صوت “بجمليون” مع الموسيقى الناعمة)

بجمليون:

                                                        فينوسُ! يا نبعَ المحبَّة، قد رسَتْ عندي الشُّجونْ

                                                        فـقـضيتُ لـيـلي لا أنـــامُ، بـجـانب الكـنزِ الثميــــــــنْ

                                                        أنتِ التي تَـسَـعُ الدُّعــاءَ، وتَـسـمـعُ الآن الأنـيــــــنْ

                                                        أولم يـرقَّ فـؤادُكِ المـحـبـوبُ للصَبِّ الطَّعيـــــنْ؟

فينوسُ!…

                                                        فـيـنوسُ! أمـسِ خـلـقـتُ مـخـلـوقــاً مـن العـــاجِ

                                                        أودعــــتُــــه أفــــــلاذَ مــن نـفـسـي وأثــبـــــــــــاجي

                                                        وكـــمـــا وددتِ لــــو أنــــك الخـــــلاقُ، قـــد جـــــاءَ

                                                        أفـــمـــا يُــــعـــذِّبـــنــا جــمــودُ المُـبـدَع السَّاجـــــي؟

                                                                                     * * *

                                                        فـيـنـوسُ! مَـنْ لي بـالحـيــــاة أصـبُّـها في عاجتي 

                                                        فـــــأرى ثـمـاري أيـنـعـتْ إنــسانَ يـمـلأُ ســـاحـتي

                                                        العُمـــــرُ أرهـقـني وذوَّبـني كـمــــــــــــا شــــــــــــاءَ

                                                        والفنُّ أغـرى بي وضـيَّـعني فـصُـــوني حـــــاجــتي

                                                                                     * * *

فينوس:

                     ماذا يا مِفَنُّ؟

بجمليون:

                                                      لكِ المعزَّةُ

فينوس:

                                                                            فُهْ بها

بجمليون:

                                                                                          أخشى

فينوس:

                                                                                                    وما تخشى؟

بجمليون:

                                                                                                              لساني لا يبوحُ باسمها

فينوس:

                  لِمْ؟

بجمليون:

                                               رهبةً!

فينوس:

                                                                                                   الروحَ تَبغي أنْ تكونَ لها رداءَ؟

بجمليون:

                         أتُستجابُ الدَّعَواتُ؟

                         أبداً يكونُ إلى شواطئك الرُّسوُّ إلى المماتْ

                         إنْ لمْ تُلَبِّي دعوةَ الدَّاعي، فما نَفعُ الحياةْ؟..

                         فينوسُ!..

فينوس: -(لأبولون)-

                         قُلْ يا “أبُّولون” أأنفخُ الروحَ “جَلَاْةْ”؟..

أبولون: -(كأنَّ الأمرَ لا يعنيه)-

                         لمْ لا؟!..

فينوس: -(بعظمة ووقار)-

                         بأمري يا دماءُ تَدَفَّقي في جسْمِها!

(يتحرك التمثال)

(يدخل بجمليون تعباً، يُبصرُ أمامَه منقاشَهُ وأدواتِه. ولا يلبثُ أنْ يُزمجرَ. موسيقى أعصاب؛ هادئةٌ أولاً.. ثمَّ لمَّا يزمجرُ ترتدُّ عاليةً)

بجمليون:

                       لُعِنَ الفنُّ .. أينما كانَ، قِدْماً ..         وحديـثــاً .. وآتـيــــــاً .. أيَّ لَـعـنـــــهْ!…

                       لُعِنَ النَّقْشُ .. يُلعَنُ النحْتُ ..  بل يُلعَنُ عقلي .. وفِكرَتي .. والفِطْنـهْ

                       لمْ أزِدْ أنْ خَلَقْتُ تمثــــالَ عاجٍ         عجِـــزَتْ أنْ تَصُــوغَ فينوسُ خِدْنَهْ

                       كلَّمـــــا أبدعتْ يــــــدي مخلــــوقاً …  قـتـلَـتْـــــه بـــرودةٌ، كـالطـعـنــــــهْ

(تخفتُ الموسيقى قليلاً…)

                       لكنِ الرُّوحُ .. ، ذلك السرُّ، وَيْحيْ أينَ يُشرى؟ من أيـــنَ يُجلَــــبُ؟ أينَــــهُ

(تتعالى الموسيقى شيئاً فشيئاً)

                       أقسمُ اليومَ لــنْ أعودَ إلى النَّحْــتِ .. فهــذا المنقـــاشُ لمْ يُرضِ فنَّهْ

                       أقسمُ اليوم …

(تنقطع الموسيقى الصاخبة دُفعةً واحدة. فقد وقع بصرُه على “جالاتيا” وهي ممدَّدة تتثاءب!…)

جالاتيا: -(دَهِشةً)-

           ….. تقسمُ اليومَ؟  ما الدَّاعي؟ …

                                     وتحكي؟ … ربّاه!!

                                             ما ذاكَ؟.. قل لي!..

بجمليون: -(مرتبكاً ومتلعثماً، يضحك بشبه جنون .. الموسيقى خفيفة للدهشة)-

              أنا .. ما بي؟ ..

(فترة صمت وموسيقى تَعَجُّبيَّة!…)

             … جُنِنْتُ … بَلْ

                          … أتُرى “فينوس”؟..

                                 بلْ هي!

                                 (بتوسُّل)                 ربَّاهُ!.. قد ضاعَ عقلي!..

(فترة صمت وموسيقى)

بجمليون: -(يستردُّ وعيَه تماماً، وينطلق راكعاً أمام “جالاتيا”)-

                               يا حياتي! .. اغْفري لعَبدِكِ إنْ غابَ عن الوعي ساعةً .. واغفري لي

                               إنَّمــــا هذه .. طبيعــــةُ فنّــــانِ .. رأى فــــوقَ ما يــــرومُ لجَهْــــلِ ..

                               اعــذُريني .. فَــدَتْكِ رُوحي ونفسي .. وافعــلي ـ نشكرُ الإلهةَ ـ فِعْلي

                               اركعي!

جالاتيا: -(تركع أمامَهُ وهو راكعٌ أمامها …)-

بجمليون: -(صارخاً بجنون)-

              … بلْ قفي!.. فأنتِ التي يُركَعُ من أجلها .. بكلِّ مَحَلِّ

(ينهض “بجمليون” ويأخذها من ذراعها، ويُجلِسُها على مقعدٍ ويركع أمامها ولا يُغّير اتجاهَ وجهه.)

بجمليون: -(هامساً .. مع موسيقى خفيفة ناعمة)-

               جالاةِ!..

جالاتيا: -(هامسة بنعومةٍ فائقة)-

              “بجمليون” زوجي!..

بجمليون: -(برفق وحنان)-

                                زوجتي، بلْ ربَّتيْ!…

جالاتيا: -(بدلال)-

                  أتُحُبُّني؟..

بجمليون: -(مندفعاً بحرارة)-

                                      مِنْ قبلِ مَولِدِكِ الكريمِ .. وفكرَتيْ

                               من قبلِ أن يبدُو الوجودُ، وُجِدْتِ مثلَ الوَمْضَةِ

جالاتيا: -(مستغربةً)-

           ماذا تقول؟..

بجمليون: -(مستدركاً)-

                أقول: إني افتديكِ بمُهْجَتي!!.. 

(موسيقى ناعمة هادئة)

بجمليون: -(يرنو إليها طويلاً، ثم كأنه يحدِّثُ نفْسَه)-

                          يقـولـون: جُـــنَّ بـجلاتيـــا، وأُفْـــرِغَ في جِسْمها فنُّـهُ

                          وأوجدَها، فكرةً كالرؤى يُدغدغُها الحُسْنُ أو حُسْنُهُ

                          بقيَّـــةُ لـحـــنٍ بثَغـــري. وقـد تَصَــدَّعَ مِنْ كَبِدي لحنُهُ

(فترة صمت وموسيقى)

                          يقولون، جُـــنَّ بتمثالـــهِ وألـبَـسَــهُ كـــلَّ غـــالٍ ثـمـيـــــــنْ

                          ولو عَقَلوا: علِموا أنَّني صنيعـــةُ فــــنٍّ، ومــا لـــيَ ديـــــنْ

                          أرى الفنَّ ديني، وعقلي، وما حواهُ الوجودُ، مع العالَمينْ

جالاتيا: -(باستفهام)-

          كأني أعرف هذا المكان!..

                                 وأعرِفُهُ منذُ عهدٍ بعيدْ

بجمليون:

          ألا تذكرين؟..

جالاتيا:

                        ……  كأني غَفَوتُ، ونمتُ طويلاً، فما أذكرُ

                        تغيمُ على خاطري صورةٌ يبرقعها حلُمٌ أغبرُ

                        متى قد وُلدتُ؟ وأينَ؟ ومَنْ أتى بي؟ ومن والـــدي الأكبـــرُ؟

                        كأنّي أعرفُ هذا الوجودَ وأجْهَلُهْ

بجمليون: -(تائهاً سادراً)-

                      حنانكِ فينوسُ، أَوحيْ لها لِتَعلمَ، فالقلب قد يُفْطَرُ

جالاتيا: وأنتَ؟..

(تنكبُّ على صدره باكيةً صارخة)

                      أَغـثْني .. أكادُ أُجَنُّ، وعِيَّ خـيـالي .. فـمـا أُبْصِرُ

                      يعذِّبُني قَلَقٌ مبهمٌ، ويُرهقُني منك ما أنكِرُ

(بجمليون في هذه الآونة، تعتريه شِبْهُ غيبوبةِ دهشة، فهو في حالةٍ يُرثى لها)

بجمليون: -(هاتفاً بحرارةٍ وتوسُّلٍ ودهشة)-

                    أتبكينَ؟ … يــا لإلَــهِ الأُلَمْبِ!.. حـنـانكِ “جالاةِ” قد يَتـلَفُ

                    ويذبلُ جفْنُكِ؟.. كُفّي البكاءَ، فماذا نفيــــدُ إذا نَـــذرُفُ؟

                    وعيْشي ليَ اليومَ، لا تذكري!.. فغيرَ زمــانيَ لا أعـــرِفُ

جالاتيا: -(وهي تشرق بدمعها)-

                  وكيف؟..

                  ونغرق في لُجَّـةٍ ماؤهــــا               شعاعٌ من الرَّغباتِ الطِّهَـارْ

                  ننقلُ في الحقل أقدامَنـا               ونــمـــلأ أقــداحَنــا بالنُّضــــــارْ

                  فأسقيكِ ماءَ الحياة مُلَىً              وتسقين شيخوختي ماءَ بـارّْ

                  مُـحـالاً طـلبْنـا، بعيداً نــودُّ              ففي كلِّ آنٍ صــريـعُ انتحــــارْ

                  محاولـة اليــأسِ مجنونــةٌ              ومَنْ يدفعُ الغائرَ المُستطارْ

                  فهذا الـوجودُ على هكذا               بُني! والحيــاةُ بـقايـــا انــدثـــارْ!

بجمليون: -(باستعطاف)-

                 اذْكُـــري آتـيــــــــاً نــرتــجـيـه                فـمـنـهُ هــنــاءَتُـنَــا تُشــــــرِفُ

                 ودنيا الشَّقاءِ، سنطرَحُها                على قـدمي يــائــسٍ يــرْجِــفُ

جالاتيا: -(متفلسفةً وهي تُكَفْكِفُ دمعَها)-

                 عذابيَ في الشكِّ يؤلمني              ويُــذبــلُ جسميَ قبل الأوانْ

                 فليتَ اليقين يُعاودُني …               فــــلذَّةُ هـذي الحياة الأمــــانْ

بجمليون: -(بشفقةٍ وعطفٍ وحنان.. بعد أن يأخذها من يدها)-

                فقومي!.. نُروِّحُ بعضَ الهموم      ونُسدِلُ دون الشَّقاءِ السِّتارْ

                إذا لـــــمْ نُــغَـــــنِّ إلـــى حُــبِّــنــــــا،      فإنَّ الظلامَ سيطوي النَّهارْ

                تعالَيْ أُريـكِ جــمـــــالَ الوجـــــودِ      ونحيا إلى الحُبِّ دون ادِّكار!..

جالاتيا: -(بحزن)-

                أفي المُستطاعِ تناسي الشقاء؟.. أفي المُستطاع افتعالُ القرارْ!؟

                فلو كان ذلك، ما أبصرَتْ عيونُـــكَ فـــرداً صَريـــعَ انتحـــارْ

                فهذا الوجـــودُ، على هكـــذا بُنيْ! أفتقنــــعُ بعدَ الحــــــوارْ؟ …

بجمليون: -(لنفسه متأفِّفاً وهازّاً رأسَهُ)-

                أردْتُ لأنشُلَهـــا بُرهــــةً مــــن الهــــمِّ، والألــــــمِ العابـــــرِ

                إذا هي تغــــرقُ في دِنْــــــهِ وتســـعى لتُقنـــــعَ لي خاطري!..

                هي المرأةُ .. المرأةُ .. المرأةُ .. صريعةُ مفهومِها الظاهري!!!

«الستار»

** الفصل الثاني **

صرخةُ الفن قد أُثيرتْ فَانثَنى مَنْ يَرْقُدُ

ذلك الْحَشْــرُ تَــــراءى هي مِنْهُ الأَبَدُ!!!

                                                – زهير –

المسرح

(كما في الفصل الأول، بعض التراب الخفيف والنقع على قواعد التماثيل الرُّخامية … الوقت منتصف الليل. الأضواء أميل للظلمة .. موسيقى خافتة ناعمة)

«المشهد الأول»

(يرتفع الستار عن “بجمليون” جالساً على إحدى المقاعد الرُّخامية ورأسُه بين يديه.

تستمر الموسيقى طويلاً، ناعمة، خفيفة .. حزينة …)

بجمليون: (يتنهَّد طويلاً …)

                                             ذَهَـــبَـــتْ عـنِّي، كـحُـلْـمٍ عَــاْبــــرٍ             ومَـضَـتْ كَـالطَّيْفِ، مَـرَّ الخَاطِرِ 

                                             وَيْـــحَ هـــــذا الفـكــــرَ، أَضْــوَاني،            ومـــا نِـلْـتُ مِـنْـهُ، غَيْرَ جدٍّ عَاثِـــرِ 

                                             لَسْتُ أَدْري، أَيُّ نَفْسٍ نَفْسُهَا؟            إنّــمـا الْمَــــرْأَةُ لُـغْــــزُ الشَّاعــــرِ 

                                             تِـلكَ “جَـالَـتَـيـا “، وَقــدْ أَبْدعـتُـهـا             تــركَـتْـني بـيــــن جَـمْـــعٍ زاخِـــــرِ

                                             كنتُ أخطـو إثـــرَها فـاسـتبقتْ            خطــواتي واختفتْ عن ناظري

                                             جَـــرَفَ الـتـيَّـــــــارُ”جَــــالَــتَــيـــــــــا”           ومـــا رَحــمَ التـيَّـارُ، ويْـــحَ الغادِرِ

                                             فقضيتُ الوَقْــــتَ أبغيــــها فــلـم أَلْــقَ إلاَ حُــلُــمي في خـــــاطــــري!

(فترة صمت وموسيقى)

بجمليون: (مُكْتَئباً نوعاً .. موسيقى حزينة ..)

                                     ليْتَ شِعري، أيْنَ أمْسَتْ؟ أيْنَ قَدْ ذَهَبَتْ؟ مَنْ أَبْصَرَتْ؟ مَنْ قد رآها؟ 

                                     وَيْحَ أَفكاري!

                                    ولكنْ مَاْ لَهَا لم تَعُدْ عندي؟ أضاعَتْ؟. أتُـراها؟

                                    أَمْ تُرى؟… 

                                    أخطو أتُراها فاستبقت خطواتي واختفتْ عن ناظري

(ثم كأنه يطرد حُلُماً مخيفاً)

                                    لا! لَيْس تأتي فِعْلةً قَدْ تُؤَذّيْني، ولا تدريْ مَداها …

(يهزّ رأسَهُ راضياً كأنما قد وجد لها العذر)

                                    فعسى تاهَتْ وَلَا عَنْ فِكْرَةٍ هَيَّأَتْها … إنما الجَمْعُ احتواها

                                    ذهبَ العُمرُ، وقد أفْنَيْتُهُ أُبدِعُ الفكرةَ، مخلوقاً يُبـــاهَى …

                                    وغداً أمْضيْ؛ وتَبقى دائماً!.. صَنْعَتيْ تلكَ فقد بتُّ إلاها !

«المشهد الثاني»

(تدخل “إسمين ” ثائرةً دون أنْ ترى “بجمليون”)

إسمين:

                                           وَيْحَ هذا الغِرَّ ما أجْهَلَــــــــــــهُ .. ضاعَ مني في الجُموع الزاخِــرهْ

                                           مَنْ تُرَى يدريْ إلى أينَ مَضَى؟… مَنْ تُرى يدري ؟.. لَعَلِّي جائره ؟…

                                           مُنْذُ ساعاتٍ أُرى هائجــــــــــةً        أصْــــدمُ النـــــاسَ ، كأنّي ثائره

                                           كلّما أبْصرتُ وجهاً أسمراً قلتُ:   هـــذا هو … فأمْضي خاســــرهْ

(تثور)

ويْحَهُ !.. وَيْحي!.. وَوَيْحَ العِيْــدِ .. ما أسْمَجَ العِيدَ بعَيْنَيْ حائره

(تلتفت فتجد “بجمليون” جالساً ورأسه بين كفيه حالماً .. تقترب منه ….)

إسمين:

                                      ما لبجمَلْيُونَ في إطراقهِ؟ ..

                                                             (لا يلتفت إليها)

                                                                    ما دَهَاكَ اليومَ؟

                                                                                         ماذا؟ ..

(لا يلتفت إليها)

                                                                                                   قُلْ !..

                                                                                                            تَكلَّمْ !..

                                     أتُرى قد ذهبتْ؟..

(بحسرة وغَيْرَةٍ وأَلَمْ)

                                                                                                مثلما قد ذَهَبَ الغِرُّ وتاها؟..

بجمليون: (رافعاً رأسه ببطء)

                                      منْ؟ …

إسمين: (بحسرةٍ ولوعة)

                                                حبيبي!..

بجمليون: (باستفهام بارد)

                                                         أهو “نِرسيسُ” مَضَى؟.. أَيْنَ؟..

إسمين: (بألم)

                                                                                  لا أدري .. فقد ضَـــلَّ انتبــــــاها

                               كنتُ في صُحْبَتِهِ أروي له                فَسَهَوْنا بُرهةً، طالَ مَـــــــداها

                               فإذا بي وسْطَ دنيــا عُرُسٍ،             وإذا “نرسيسُ” في دُنياً سواها

                               أيـــنَ قَدْ أَمْسى؟ وأيـــــنَ                 انصَرَفَتْ قَدَماهُ؟ .. لستُ أدري!

بجمليون: (حالماً ومستعيداً أقوالها ببطء … موسيقى هادئة تفكيرية)

                              … فَسَهَوْنا بُرهةً، طالَ مَداها؟ … 

                                                                                (باستغراب)

                                                                                وإذا “نرسيسُ” في دُنياً سواها؟…

                                  أين قد ضَاعَ؟ متى؟ .. متى؟ .. لا تقلقي!.. إنني أيضاً و”جَاليْتا” افترَقنَا

إسمين:

                                  ضاعَ .. عندَ المذبحِ الثــــاني، وقدْ كانَ مَيــــلُ البَدْرِ جُزْءاً، مـــا عَلِمْنَا

بجمليون: (حالماً)

                                  هو عين الوقـــتِ، ما أَغرَبها صُدفَــــةً، في طبْعِهـــا قَــدْ أقـلَقَـتْـنَــــــــا 

إسمين:

                                 أهي “جالَيْتَا”؟..

بجمليون: (بألم)

                                                  ومن يُقلِقُني غيرُها؟ ..

إسمين: (بحسرةٍ)

                                                                                 إنّــا مَــــعَ الحِــــبِّ تَعِبْنا!..

(موسيقى ناعمة خفيفة…)

                                         كَمْ رَغِبْنَا نَنْهَبُ الوقتَ فمـــا        زادنــا الحُبُّ سـوى هـمٍّ طَـرَقْنـــــــاْ

                                         كـنتُ كـالنَّحْلَةِ أجـني طَلْقـــــةً       مِنْ رحيقِ الزَّهْرِ شُهْداً ليس يَفنى

                                         فـــإذا بيْ بَـعـدَ حُبّــــــــي وَرْدَةً أذْبَــلَـتـهــــا كَــــفُّ مِـغْـنــــــــاجٍ فَـتَـــــنّــاْ

                                         ليتَ لمْ أُحبِبْ، ولمْ ألقَ الفَتى،       لَـيـتَني أسْـطيـــعُ تـحطيـــمَ المُعنَّى

                                         كلَّ يومٍ، تذهبُ الغَيْرَةُ بـــــي        ثـم تــــأتي، وكَــمَــــا عُـــدْنَا ابـتـدأنــــا

                                         عُمُرٌ يمضي رَتيبـــاً مُرْهِقاً …           أنـــا فيـــه أنـثـني رُكْـــنَــاً فَــرُكْــــنــا!!

بجمليون: (ساهماً مع موسيقى حزينة)

أَمَا لِهذا العـــــذابِ مِنْ آخِـرْ؟

 أَمَا لِهذا الشقــــــاءِ مِنْ داثرْ؟

  ضَلَّ مَشِيْبي وكنتُ كالناضِرْ!..

   مضى شبابي كَلَمْحَــةِ الخاطِرْ ..

بجمليون: (حكيماً)

                                         أبـعـدَ المَـشِـيبِ وَرَوْعَـتِـــهِ             تُـــدَاعِـبُـني الغَـيْـرَةُ المهزئـهْ؟

                                         حَــنَـانَـكَ يا شَيْبُ لا تَعْذُلَنَّ             فــإنـكَ لـمْ تَـدْرِ مـــا الامـــرأَهْ!

                                         تُــحَـيّـــــــرُني وأنــــا خــــــالِـقٌ            وتـعبثُ بي وهي مـستهزئهْ

                                         هي المرأةُ .. المرأةُ .. المرأةُ ..         لَهيبٌ مِنَ الجَمْرَةِ المُطفَأه!!

(يجلس على قاعدة التمثال مطرقاً .. موسيقى ناعمة هادئة بعيدة.. إسمين تسير من طرف المسرح إلى الطرف الآخر بتباطؤ شديد ورأسها إلى الأرض …)

(يُسمعُ من بعيدٍ ترتيل النشيد التالي …)

                                         يا ســـاقيَ الآلامْ                      مِـنْ كـوبَـةِ الدُنْيَاْ

                                         حَطِّمْ بقايا الجَـاْمْ                     فالعيشُ كالرُّؤيا

                                                                                      يمضي به الإصباحْ!

                                         عمْري بقايا كاْسْ                   خـمْـرَتُـــهُ جَفَّــــتْ

                                         مُعَطَّرَ الأنفـــاسْ                  من بعض ما أبْقَتْ

                                                                                      من خمرةِ الأرواحْ!

                                         أغْفَى على الألحانْ                    قلبٌ بصَدْرَيْنَاْ

                                         ماذا علــى الأزمانْ                    لــو أنَّ ثغريْنا

                                                                                      ذاقا كؤوسَ الــراحْ؟

                                         قد لفَّنَاْ اللّيــلُ                          في جنحـه المحبوبْ

                                         فَضَمَّنا المَيْلُ                           في المَعْبَدِ المخروبْ

                                                                                       نحيا مع الأشبــــاح!

                                         يا بنتَ حانِ الحُبّ                      مَلَّ الهَوى يأسِي 

                                         جَفَّتْ لهاةُ الصّــبْ                  فائْتِيـــهِ بـالكــأسِ 

                                                                                       صونيهِ للأفــــــراحْ

                                                                                       يحسو كؤوسَ الرَّاحْ

                                                                                       مـن خَـمْـــرَةِ الأرواحْ

                                                                                       يـــا حانـــــةَ الدنـيـــا!!…

«المشهد الثالث»

“يضيعُ على الفنَّان عُمْرٌ مُوَحَّدٌ 

ليحظى بِلَذّاتِ الخيال وآمالِهْ…

ومــــا الفــنُّ إلّا شِقْوَةٌ ثم شِقْوَةٌ

يغيبُ بها الفنّانُ في نارِ أبطَالِــهْ …”

                                         زهير

(يقترب أبولون وفينوس من نافذة المسرح فيريان “بجمليون” في اكتئابه وروحته وغدوته مع “إسمين”)

أبولون: (لفينوس برقةٍ وحنان)

                                          تأذّى، فما زهرهُ يُثمِرُ                  ويذوي وئيداً، فما يُذعَــــرُ

                                          ويألمُ في سِـــرِّهِ، بينما               يسيرُ إلى الموتِ، لا يَحذَرُ

                                          فهذا يمثِّلُ شخصَ الإلهِ،        ولَسْــنَا نُمَــثِّلُ مــا يُــذْكَــرُ

                                          كــأنّي بـهذا الإلــــهِ العظيمِ يَــذوبُ،  ليَخْـلُــدَ، أو يُقْبَـــرُ!!!

فينوس: (بلا مبالاة)

                                          وما شأنُنا نحنُ في تافهٍ؟..

أبولون: ( مقاطعاً)

                                                                                صهٍ يا “فينوسُ” فـــذا أكبـــرُ

                                          وكــــــلُّ رغـــــابِ الحـيـاةِ، تُـرى على مــذبــحِ الــدَّمِ، تـنـهدِرُ

                                          نراهُ رَهيـــــنَ الخـيـــــــالِ، وفي قــرارةِ وجــدانــــه يـشـعـــرُ

                                          ويُهرَعُ كالطِّفـلِ نحـوَ الرُّخـــامِ، يَـصُـــبُّ عليهِ رؤىً تَــزْخَـــرُ

                                          ويُـنـطِقــهُ فـنُّــه روعـــــةً، ويُـنـطقُــــنا الأمـــــلُ الأصــــغـرُ

                                          ولكننـــا مِنْ بقايـا “الأُلَمْبِ” يُــخادعُــنـــــا البَـهْرجُ المُبْهِـرُ!..

                                          وكـــــــلُّ نـعيـــــمِ الحيــــــاةِ، مُـــلىً تمـــــرُّ بنـــا، ثم لا نشعرُ

                                          نقدِّسُهـــا حيـــثُ قد قاومَـــتْ وماتتْ، ولكــن بها نَـفخرُ

                                          وما كــــلُّ أوقـــاتِــــنـا لـــــــذَّةً، ولكـــنَّ أكثــــرَها يُـــشْـــكَــــرُ

                                          كـذا قالَ “بجمالُ” في نفسِهِ، فــذابَ ليجعـــلَها تَزْخَـــــرُ!!

                                          وما نحـــنُ إلاّ بقايـــــا نُـهـــاهُ، وإنْ كــــانَ ألقـــابُــــنا أكبـــــرُ

                                          أنَسْــعى لننقصَ مِــنْ قَــدْرِهِ، ومِنقـاشُـه لــم يــزلْ يحفرُ

                                          ولكنْ هي المــرأةُ .. المــرأةُ ..غَـرورٌ ، بالجَهْلِ تَــسْـتـكــبِــرُ

«المشهد الرابع»

بجمليون: (مسترسلاً في أحلامِهِ كمَنْ يُناجي نفْسَه … موسيقى من كمانٍ حزين)

                                                                                تعبتُ، وذابَ شبـــــابي، ومـــا وَنَيْـــتُ، ومــــا هِـمَّـتي تَفْـتُرُ

                                                                                وأبـقَى، كـما كُـنتُ مُـسـترسِلاً، أعيــشُ لفنّي، فما أهْجُـــرُ

                                                                                ويعتــادُني، كـلما مِـلْتُ عـنـهُ، حـنـيــــنٌ مُـلِـحٌّ، بـــــه أشـعُـرُ

                                                                                فأطــــوي النهارَ، إلى قطعـــةٍ، ومِنْقاشِ فنٍّ ومـا تَخْطُرُ

                                                                                وأســهَـــرُ، والـبَــــدرُ خِــلّيْ الــرَؤومُ، فلـمْ يُـثْـنِـنِي أنـني أُنْحَرُ

                                                                                يـــذوبُ شــبــابي بنار الفنـــونِ وأعبـــدُهــا وهـي لا تَقْــدُرُ

                                                                                حنانَـــكَ يـا ليـــل! .. نـجـمي خَـــبَــا وكـــادَ تُـضَـيِّــعُهُ الأدْهُــرُ

                                                                                حـنــانَـــــكَ يــا ليـــلُ جِأئْني فقـد غــدوتُ حقيـــراً، فما أُقدَرُ

                                                                                وتلكَ صنيعَـةُ فَنّي، مضَتْ تعيشُ، و”نرسيسَ” أو تَسْمُرُ

                                                                                صَـبَـبْــتُ – لأخلقــها – مهجتي وفنّي ونفسي  وكــمْ تَنْفُرُ

                                                                                أهــــذا جَــزاءُ الإلـــــهِ العظيــمِ، يُصَـــوِّرُنــــا ثمَّ لا نَشـــكُرُ؟..

                                                                                ومــاذا يُضِيــرُ إذا ســايـــرت عـجــوزاً تــهـــدَّمَ أو تَــظـهَـرُ؟..

                                                                                ولــو مارَسَــتْ مِهْنــةَ الخالــقِ، لعَــذَّبَها أَنــهَا تكفُــــرُ!!!!!!

(فترة صمت، يُسمعُ خلالها نحيبٌ متقطعٌ خفيف، يتابعُ الكمانُ ألحانهُ الناعمة الرفيقة الحزينة …)

                                                                                ولـكـننــي، خــــالقٌ نــــاقصٌ حقيــــرٌ، وأفكــــاريَ الأحْـقَـرُ

                                                                                ولو كنــتُ مُكْتَـــمَلاً، لــمْ أدَعْ صنيعَــتي اليــــومَ تَستنكِرُ

                                                                                ألــمْ أكُ أسْطيــعُ إخضاعَها؟.. وإلّا، فما مَبْــدئي الأكبَرُ؟..

                                                                                ألستُ إلهاً؟ ..

(يصرخ)

                                                   بلى! .. والــــذي صَنَعْتُ دليلٌ !.. بهِ أفخَرُ

                                                   وهَلْ وُجدتْ صِنْوُ “جَالاتِيَا”؟.. وهلْ خُلِقَتْ أُختُها الأصغَرُ؟..

                                                   يقيني لا!

(تنقطع الموسيقى فُجَاءَةً. يعود فيتَحَسَّسُ شَعْرَهُ بأصابعه المضطربة ….)

                                                   ويحَ عقلي!.. فقدْ عَرَانيَ ضَعْفٌ .. فما أشعُرُ

(يرتمي على قاعدة تمثالٍ بتَراخٍ …)

                                                   نُجَنُّ، وذي عِلَّةُ الصّانعين .. نثـــــورُ على العَبْدِ، لا نَغْفِرُ

                                                   “ونـــزعُمُ أنّهُ جُـــرْمٌ صغيرٌ .. وفيه انطوى العالَمُ الأكبَرُ”

(فترة صمت .. ثم يسترجع نفسه)

                                                   إذا لــــمْ يَثُرْ “عبــــدُنا” تــارةً ويهدأَ أُخـــرى، فهو حَجَرُ!..

                                                   ونَفقِــــدُ لَــــذَّةَ مَنْ فِعْلُــــهُ عَظيــــمٌ على أعظــــمٍ يَظْهَرُ!!!

إسمين: (تقترب منه بهدوء وحنان وتربت على كتفه الواهنة بعطفٍ ظاهر)

                                                   حنانَــــكَ “بجمالُ”، لا تبتئسْ، فأنــــتَ إلــــهٌ بــــهِ نَفْخَرُ

                                                   عظيماً خُلِقْتَ، عظيماً خَلَقْتَ، ومَنْ فِعْلُهُ في الورى أكبَرُ؟..

                                                   إذا ما جَفَــــتْكَ “جلاتيا” فـــذا يقينيَ أمــــرٌ بــــدا يَخـــطُرُ

                                                   ستشعــرُ يومــــاً، بأنَّــــكَ مَــــنْ يُخَــــرُّ لديــهِ، ولا تُنـــكرُ

                                                   فصبــــراً، فمثلُكَ رَمــــزُ البقــــاءِ، وإنَّ الفنــــاءَ بـِنا أجدَرُ

                                                   خُلقْنــــا لِنَحظى بِشَــــهواتِنا؛ ونَفْــــنى إذا طَيفُــــها يُقْبَــــرُ

                                                   ولــــذَّتُنا، جَسَــــدٌ لاهبٌ .. حَقِيــــرونَ، نَدريْ، ولا نُنــكِرُ!

(موسيقى ناعمة، حزينة، مؤثرة، تتمثل بشكل أنّاتٍ ضعيفةٍ، ثم تتعالى …)

بجمليون: (ينهض ببطء، يسير وئيداً، يتكلم بقساوة من بين أسنانه…)

                                                  حطّمَتْنـــي “جالاةِ” فابتُــــذلَ العُمْـــــرُ، وقـد كانَ يـانعاً ذا ثمـــــارِ

                                                  ورَمَتني، كالهيكَلِ الصَّخرِ، لا يدري به الناسُ والورى، في القفارِ

                                                  وتَعَرَّتْ مـن لـذةِ الحِسِّ، حتى جــانَبَتْني تَـفِـــــرُّ صُـحْـبَـــــةَ جــــاريْ

                                                  أمسِ، كانتْ في هيكلِ الخُلدِ تبدو في ثيابٍ من طينَةِ الأحجــــارِ

                                                  كانَ فيها من البراءَةِ والطُّهْــــرِ مَزِيـــــدٌ لراغـــبٍ في الطِّهـــــــارِ

                                                  ثم أمسَتْ، يُدَنِّسُ الروحُ عِطْفَيها ويُغــــــري، في حالكِ الأفكــارِ

                                                  فانثَنَتْ تجذبُ العشيقَ، وكانتْ طَــــوعَ حبي وقوتي واقتـــــداري

                                                  دنَّسَتها الروحُ اللعيــــــنُ، فأحقِـــــرْ برقيــــعٍ مُـــدنِّـــــسِ للعَــــذارِ

                                                  عجبي لو تَرَكْتُها لسنينٍ، كـــان قتـــــــلي في شَــرعِهــــا لا بِعَـــــارِ

                                                  هذه الروحُ مِنْحَةٌ مِنْ عظيمٍ .. ويحَ “فينوسَ” قدْ سَعَتْ لدَمـاري

إسمين: (بتعجب)

                                                  ويحَ “فينوسَ”؟…

بجمليون: (صارخاً)

                                                 ويحَها طعنتني ورمت بالنبيــــل للأكدارِ

إسمين: (مذعورة)

                                                 ويح “فينوس” ما الذي قلتَ بجمليون؟ أقصر ولا تثر كالضَّواري

بجمليون: (منصرفاً عن إسمين ومسترسلاً)

                                                صُغْتُها شُعلةً طَهوراً، كما أرْضى ويَرْضَى عَقلي العظيـمُ العاري

                                                ثـمَّ، لمّـا غَـدَتْ – مِـنَ الـرُّوحِ – أُنثىً، مَـلَـكَـــتْ مـا للإناثِ من أوضارِ

                                                فـهي غِــرٌّ حـمقــى، صنيعــةُ أنثــى، دَعَـمَـتْــها بـــأســــوأ الأفكــــــارِ

إسمين: (ضارعة)

                                               رحمةً بي!..

بجمليون: (صارخاً بضراوة)

                                               يـــا لـيـتَ “فـيـنـوسَ” عـنـدي!.. كـنتُ حَطَّمْتُها بفــأسِ انفجـــاري

                                               إيهِ “فينوسُ” !.. يا خُلاصَـةَ رَقطاءِ الوجودِ اللّعين .. هاتي ثمــاري

                                               لَمْ أعُــــدْ أبتـــغي الحيــــاةَ كمـــا جِئْــــتِ بها، بَــــلْ أَرُدُّهــا بــاحتقـارِ

                                               فأنــا صانعُ الجـــواهرِ في الجســـمِ، أعيــــدي الأُصُــــولَ للجَوْهـارِ

                                               وإذا كـانت الدَّناسَـةُ في الـــرّوحِ .. فبئـــسَ السّمــو في الأفكـارِ!

(تخرج “إسمين” مهرولة)

«المشهد الخامس»

(يقترب “أبولون” و”فينوس” من النافذة)

أبولون: (مشيراً إلى “بجمليون” الثائر)

                                                 في دمــائــــه شَـــرَرْ            في اندفاعهِ خَـطَـرْ

                                                 رُبَّما بــكَى، وقَـــــــــدْ             يَنْثَني لِـيَـنْـتَـحِـــــــر!..

                                                 لمْ يَقُلْ سِوى صَوَا             بٍ، وكــلُّـنـــا انْـدحــرْ

                                                 قدْ أتى بـهـا، كـمـــــا             نـبـتـــغي  ونـنـتـظـرْ

                                                 إلهـــــةٌ،  جَـمَــالُـهـــا             فــاقَ صَـنـعَـةَ الأُخَرْ

                                                 دُنِّسَ الجمالُ، والطُّهْـــــــرُ، والشَّـذى العَطِرْ!..

فينوس: (هائجةً)

                                                 ما تقولُ؟..

أبولون:

                                                                  لمْ أقُـــلْ        غيرَ ما بـــهِ شَعَرْ!

فينوس: ( هائجةً …)

                                                قدْ رَميتَني بمـــا            بَعضُــهُ لنـا ضَـرَرْ

                                                إنُ يكُـــنْ يَنالنــا…          تنثَنــــي وتَفتَخــــرْ؟…

                                                سوف يَجرعُ الأسى.   ويْحَــــــهُ سيعتـــــذرْ!..

أبولون: (متضاحكاً) 

                                                أنتِ؟.. تعلميــنَ ما       يَطلُــــبُ الــــذي كَفَرْ

                                                تبتغين أخْـــــذَ مـــــا      قدْ سَكَبْتِ في الحَجَرْ؟..

(يضحك بعصبية)

                                                اسمعي!.. فعَبْدُنا       عقلُــــــــهُ سينفَجِــــــرْ

                                                لا يريدُ ما وهَبْتِ          الجمـــــــادَ  مُحتَقَـــــرْ!… 

فينوس:

                                                أبلونُ ما الذي قلتَ؟ ….

أبولون:

                                                                               لم أقــــلْ هَــذَرْ

فينوس: (بخبث)

                                  لكــــنِ الــــذي يرى الشــرَّ يدفــعُ الخَطَرْ

أبولون:

                                                  أنتِ مَنْ أرادها

فينوس:

                                                                              أعاجــزٌ وتفتخرْ؟

أبولون:

                                                  لستُ عاجزاً ولو         شئتُ لانجلى الخَبَرْ

فينوس:

                                                  شأْ

أبولون:

                                                                 ولِمْ

فينوس:

                                                                               ألَــمْ تَقُـْـل؟

أبولون:

                                                                                              كلُّ قولنا فِكَر

فينوس:

                                               تنثني؟

أبولون:

                                                             أجلْ

فينوس:

                                                                          وفيم اندفعتَ تنتصِرْ؟

أبولون:

                                         النساء لعنةٌ حلّتِ الأرضَ والبشَرْ!

                                           نحن هنـا عَـدُوَّانِ: مَــنْ سينتصرْ؟

(يأخذ قيثارته ويداعبها بأنامل سحرية)

فينوس: (هائجةً مُتَحدَّيةً)

                                         إنْ تَكُنْ صَنيعَتي شَرَّ ما يَرى الأُخَرْ

                                         فاصْلِحِ الذي جَرَى، فالإلهُ مَنْ جَبَرْ

أبولون: (متباعداً ومتضاحكاً)

                                         لَمْ يَكُنْ يُـريـدُني، بَـلْ أرادَ مَـنْ يَـغُرّْ

                                         لَيسَ مِنْ طِباعِنا أنْ نَرَى ونَنْحَشِرْ

                                         أنتِ مَنْ أرادَها، فانظُريْ كَما نَظَرْ!

فينوس: (بخبث)

                                         لكنِ الذي يَرى الشَرَّ يَدْفَعُ الخَطَرْ

                                         عاجِزٌ وتدَّعي؟.. بئسَ ما بهِ تُسِرّْ!..

أبولون: (مدافعاً عن نفسه)

                                        لستُ عاجِزاً ولا صِنْوَ عاجزٍ أَشِــرْ

                                        إنَّما مَشيئَتي لو أَرَدْتُها .. تَدِرّْ! .. تَذَرْ

فينوس: (بخبث)

                                        أُدْعُهـــا نَــرَ الذي تدَّعي وتَفْتَخِـــرْ

أبولون: (لنفسه)

                                        النساءُ لَعْنَةٌ حَلَّتِ الرَّبَّ والبَشَرْ!!

                                                       (لفينوس)

                                        نحنُ هُنا عَدوّانِ، مَنْ سَيَنتَصِرْ؟..

أبولون: (منشداً)

                                        يا بُعْدَ عَهْدِ الألَــــــمْ       عن أرضِناْ

                                        يغيبُ فيهِ العَـــــدَمْ       عن حُبِّنـــاْ

                                        وينطوي في الظُلَمْ      بين الرِمَـمْ

                                                                                      مِن صَفْوِنا!!

                                                             *****

                                        “جالاةِ” عـودي لَـــهُ        قبلَ النسيــمْ

                                        واستسلمي.. علَّــهُ        ينسى القديمْ

                                        وقَدِّسي عَقْلَـــــــهُ قبــل النَــدَمْ

                                                                                لِغـــــدنا!..

                                                             *****

                                        عودي لأحضانِهِ             فأنتِ هُوْ

                                        فـــذا بأحـزانِــــــهِ             مُؤَلَّــــهُ

                                        يــذوبُ في شاْنِـهِ          ليَبْتَســمْ

                                                                               لِخُلْدِنا!..

                                                            *****

«المشهد السادس»

(يستفيق “بجمليون” رويداً رويداً ببطء، موسيقى ناعمة خفيفة ولذيذة. يقلّبُ طَرْفَهُ في المكان وتَشعّ على محيّاهُ شَبَحُ ابتسامةٍ مَرْضِيَّةٍ. بهدوء وطمأنينة ينهض ويلتفتُ يَمنَةً ويَسرَة)

بجمليون: (بحنان)

                                                      كأنَّ إساري، وحُزْني، وما عَرَانيَ، ذابَ كأنْ لَمْ يَكُنْ!

(يعرك عينيه)

                                                     أُحِسُّ بفَيْضٍ مِنَ المُنْعِشاتِ يُنَبِّهُ قلبيَ بعدَ الشَّجَــــنْ

                                                     وأشعُرُ أنَّ خيــالَ الشقاءِ تــلاشى، على نَغَماتِ الزَّمَـنْ

                                                     وأسمَــعُ، بالوهم قيثارةً، تُحَلِّلُ في خـاطري مـــا سَـكَنْ

                                                     فـتَـبْـعثهُ نَـشـــــوَةً حُـلـوَةً تَــــرُدُّ شـبــابــــيَ غَضَّ الفَنَــنْ

(يقوم وئيداً متطلعاً حَوْلَهُ بلذَّةٍ وشَغَفٍ ثم بارتباك)

                                                                                و”جالاةِ” أَيْنَ؟..

«المشهد السابع»

(تدخل “جالاتيا” فَرِحَةً مَرِحَةً طلقةً)

جالاتيا: (مقاطعة)

                                                                               هنا .. هَاْ هُنَا ..

 

(يتعانقان)

                                                  حبيبــــــــيَ .. روحــــــي .. حيـــــــاتي .. دمــــــــــــي!..

                                                  لَقيْتُـــكَ مَنْ بَعْدِ فُـــرقتنــا، وكيـــفَ افتَـــرَقْنَاْ ولمْ نَعْلَــــمِ؟..

                                                  سدَرتُ، فلَمْ أدْرِ أيْنَ الطريقُ، وضاعَتْ خُطايَ معَ الأُمَـــمْ

                                                  وأصبحـــــتُ كالطّيــــرِ بيــنَ النُّسُورِ، تَقاذَفُني مِنْ فَمٍ لِفَــمْ

                                                  وضَاقَـــتْ بيَ الأرضُ، حتى سَمِعْتُ نداءً خفيّاً، فَلمْ أَفْهَـــمِ

                                                  فَمَيَّزْتُـــهُ .. إذْ بقيثــــارةٍ تُفَتِّـــــحُ قلبــــــيَ، مِنْ أَمَــــــــــمِ

                                                  فَجِئْــتُ إليـــكَ بقَلبي، ومُهجتي، بَـــلْ وكُلّي، وثَغري الظَمِ

(تُقَبِّلُهُ طويلاً)

بجمليون:

                                                 مَضَــتْ ساعَــــةٌ منذُ فُرقَتِنا كأنّي بها عُمُرٌ شاملُ

(لنفسه)

                                                 فكيفَ. إذا الموتُ عَاجَلَها؟.. لَعِينٌ هو الأَمَلُ الكامِلُ!..

(إليها)

                                                تعالَيْ، تعالَيْ … ففي أَضْلُعي مَعَابِـــدُ شَتّى كما تَشْتَهيــــنْ

                                                فإنْ شِئتِ حُبّاً، فَعِنْدي نُهاهُ، وإنْ شِئتِ لَهواً، فَعِنديَ المُجونْ

                                                وإنْ شِئْــــتِ ما شِئْــــتِ تَلْقَينَهُ بِجَنْبَيَّ يبــــذلُ ما ترغَبيــــنْ

                                                ولا تتــــركيني ولو ساعــــةً، فأنـــتِ بذلكَ قَدْ تَقْتُليــــــــــنْ

                                                وحُــــبُّ العجــــوزِ هوىً جارِفٌ؛ خُلاصَةُ يأسٍ وهمٍّ مَكِيْنْ

                                                وغيرتــــه زعـــزعٌ أفلتـــتْ أصـــولَ الرَّحابـــةِ، لوتَعلَمينْ

                                                وأعلَــــمُ أَنَّــــكِ قُدْسِيَّــــةٌ تَتــــوقُ إلــــى مَــــرَحِ الطائِشينْ

                                                وأعلَمُ …

(يبكي)

جالاتيا: (مقاطعةً وهي تستلقي على صدره)

                                                يكفي فأنـــــتَ الشبابُ، وأنتَ حياتي، ولَهـــويْ، وَزِدْ

                                                وأنـــــتَ إلَهي؛ ففيكَ الكَمَالُ وما يبتَغي أحمقٌ مستَبّدْ!

                                                فَكَيـــــــفَ تَشكُّ وترْضى بأنْ تقولَ بأنّي صِنْوُ الرَّغَدْ

                                                لَقَدْ كُنتَ لي صَبوَتي، والذي أُرِيْدُ، وإنْ كُنْتُ لَمَّا أُرِدْ!..

بجمليون: (يُسَرَّى عنه، وهو يعانقها)

                                                لمْ يُخَيَّبْ ظنّي العظيـــــمُ، وحَقَّقْتِ أمَاليْ وبُغْيَتيْ ومُـــــراديْ

                                                كانَ همّيْ أنْ أُنقِذَ الأرضَ مِنْ تَعْسٍ بأبنائها عَريقي الفَســــادِ

                                                فَتَطَهَّــــرْتُ ثُمَّ طَهَّرْتُ “جالاةِ” فجــاءَتْ كَمَا أرادَ رشـــاديْ

                                                تجدُ الخيرَ مــا أراهُ، وإنْ كــــانَ ضلالاً، وتهتـدي بفـــؤادي

                                                إنْ تألَّمْتُ، خَيَّمَ الحُزْنُ حيناً فوقَ وجهٍ ضاحي البشاشةِ بـادي

                                                ولَئِــــنْ مِلْتُ للبشاشةِ هَشَّتْ؛ رغْمَ ما قَدْ يَكونُ في الأكبــــادِ

                                                هكـــذا أفهمُ النســـاءَ، وأرجـــو أن أراهــنَّ عند حدِّ اعتقادي

                                                إنّمـــا تَعْذُبُ الحيـــاةُ، إذا ما عَـــرَفَ الناسُ قَـــدْرَهُمْ بِرَشادِ!

جالاتيا: 

                                                ويْحَ نفسي، إنْ كُنتُ أسْطيعُ إلّا أن أكونَ الذي تَرى بِرِضائـي

                                                عَرَفـــتْ نَفسيَ اللَّعُـــوبُ فنـــوناً مِنْ أفانينِ أرضِنا والسَّمــاءِ

                                                فرأيـــتُ الحيـــاةَ أضألَ مِنْ أنْ تتبارى بيـــن الصَّفــا والشَّقاءِ

                                                عجَباً للوجودِ، يُحــرَقُ في نــارَيْ: طُمُــــوحٍ وخِسَّةِ الإنطِواءِ

                                                أتُرى هكذا بُنيَ الكونُ؟.. أمْ ماذا؟.. أهذي طبيعةُ الأصفيــــاءِ؟

                                                إنْ يَكُــنْ ذاكَ، فالإلــهُ: إلهي صاغَنيْ غيرَ صِيغَــــةِ الأدْنيــاءِ

                                                أجِــدُ الفِكــرَةَ التي يَرْتَئيها كُـــلَّ ما في عقيدَتي مِنْ رِضــــاءِ!..

                                                أنا أدريْ مَنْ صانعي ….

بجمليون: (بدهشة)

                                                                                  أنتِ تَدْرينَ؟..

جالاتيا:

                                                                                   بَلَى!.. فالحديثُ في كُلِّ نادِ

                                               كُلُّهُم يَسرِدُ الحقيقةَ في سمْعِ أخيهِ، مُفاخِراً بِكَ، زاهِ

بجمليون: (ثائراً)

                                               يا إلهي!..

جالاتيا:

                                                                              أأنتَ تدعو إلاهاً؟..

بجمليون:

                                                                                        كُلُّنا في الوجودِ طِفْلٌ يُنادي

                                             لستُ أبغي مِنَ الحياةِ، سوى أنْ أجدَ اليومَ مَنْ يَشَمُّ عَبيريْ

                                             إنَّما نَحْرِقُ النُفوسَ، لِنُعْطي الضَّوءَ للنـاسِ، بـالوفـاءِ الصَّغيرِ

                                             ولِهَـــذا الإلـهُ صوَّرَنـا الأمـسَ، ليَحْظى بالمَجْـــدِ في التقديرِ!!

(يركع أمامها)

                                            قَدِّرينيْ فَدَتْكِ رُوحي ونَفْسيْ … أنا عبْدٌ لِمَنْ يَصُونُ شُعوري

جالاتيا: (وهي تأخذه من يده)

                                            أنتَ عَبّدٌ؟.. بَلْ أنتَ رَبٌّ كَريمٌ .. حَسُنَتْ مِنْكَ بَسْمَةٌ للضَميرِ

                                            عـنـدمــا يَبْسُـــمُ الإلــــهُ لِعَبْـــدٍ، يجـــدُ الصَفـــوَ كالغَمامِ الغَزيرِ

(فترة صمت وموسيقى ناعمة هادئة عادية مطربة، تنتقل “جالاتيا” في المَمْثَل ….)

«المشهد الثامن»

(تدخل “إسمين” طائشة فرحة مع “نرسيس”)

إسمين:

                                                       جئتُ

(تنقطع فُجاءةً عن تتميم الحديث إذ يقع بصرُها على “جالاتيا” فتتراجع قليلاً إلى الوراء ثم تقول وهي تقترب من “جالاتيا” وفي نفسها كلُّ الغيرَة)

                                                 هلْ عادَ للحظيرةِ مَنْ تـــــــــاهَ وخَلَّــــى مَعبُــــودَهُ للعـــذابِ؟..

                                                 أمْ تُرى جِئْتِ جِيئَةَ المُذْنِبِ الباكي لتَحْظيْ بِعَفْــوهِ والمَتـــابِ؟

                                                 ولماذا انطَلَقْتِ بَينَ البَرايا؟.. أتُرى مِلْتِ للهوى والشبــــــابِ؟..

                                                 كيفَ أبْدَلْتِ رَبَّكِ اليومَ بالناسِ؟.. وكيفَ انطَلَقْتِ بينَ الشِّعابِ؟

(تهزُّ رأسَها في كثير من السخرية)

                 عجبي للنساءِ يرْغَبْنَ في شيءٍ، فإنْ نِلْنَهُ، انصَرَفْنَ لِغَيرِهِ!!

                          تلكَ مِنّا طبيعةُ الجِنْسِ

جالاتيا: (تصيح بها زاجرةً)

                                                                              يكفي! قَدْ أَطَلْـتِ الحديثَ في غيــــرِ قَصْـــدِ 

                                                ما لنا والنساءِ والإنسِ والجنِّ؟.. دَعينا مِنْ رَغــــوَةٍ ليسَ تُجـــــدي

                                                ضِعْتُ ثمَّ انْثَنَيْتُ! هَلْ بَعْـــدَ هـــذا من مجـــالٍ لكـــلِّ لمــــزٍ ونقدِ؟..

                                                حدِّثِينَا عَنْ يَومِكِ الحُلوِ، عَنْ زَغـــرَداتِ النساءِ في كــــلِّ نَجْـــــدِ

                                                حديثنا عَنْ ذا، وعَنْ ذَاكَ، عَنْ قومي، وعَنْ فينوسَ الحنونِ بِسَرْدِ

                                                وأطيلي، فقدْ مَلَلْنــــا عتابــــاً. إنَّ أشقَى الحيـــــاةِ أخْــــذُ لِـــــــرَدِّ

                                                ما خُلِقْنــــا لِنَمْلَأَ الأرَضَ تعقيــــــداً على تعقيدٍ، فما ذاكَ يُجــــدي

                                                حَسبُنــــا أننا خُلِقْنـــا. ويبقى أنْ نُذيبَ الحياةَ في كــــأسِ رَغْــــــدِ

                                                ثُمَّ نَحْســـــوهُ ما استطعنــــا جميعـــاً. فلَذيــــذٌ ألّا أُسقَّــــاهُ وحدي

                                                كلَّما أوما السُّقـــــاة إلينــــا…أومــأ الصَّفـــو للنَّــــدامى بوَعــــــدِ

                                                                                        ــــــــــــــــ

                                                فَهلُمّوا لِنَصْعَدَ السَّطْـــــحَ لِلَّهوِ بِقَلْــــــبٍ حــــيٍّ وصفــــوٍ مُعَــــدِّ

                                                نَحْنُ للرَّاحِ والصَّفــــاءِ خُلِقْنـــا لا لِهَــــمٍّ ومُضْنيــــــاتٍ ونَكْــــدِ!!

(تلتفت إلى نرسيس)

                                                قُمْ و”إسمينَ” وأحضِرا الـــــزادَ، هيّاْ وأنا والخدين نسعى بِجِلْدِ

                                                وأخبِراْ جارَنا المِفَنَّ، فقيثارَتُهُ اليـــــومَ خيـــــــرُ مُغْـــــرٍ بسُهْدِ

                                                ثم عُوْجَاْ على “العَجُوزِ” وجيئا بكثيرٍ من النِقـــــــالِ لِحَشْـــــدِ  

                                                إنَّ “آثينَ” خَلْفَناْ سوفَ تمضي .. كلُّنا التائهونَ، والرّاحُ تهدي

(تخرج “إسمين” و”نرسيس”)

«المشهد التاسع»

(ينهض “بجمليون” مَرِحاً ويُقْبِلُ على زوجه ويُقَبِّلُها ….)

                                                                       كَفِّنينــــي بِلُطْفِـــكِ اليــــوم إنـــي جِـــــدُّ أشــتــاقُ للحيــاة الحبيبهْ

                                                                        قــد كفاني مـا ضــاعَ مـنْ زهْرِ عُمري بينَ أحجـارَ جـامداتٍ كئيبهْ

                                                                        ثم لمّـا خَلَقْتُكِ الأمسَ مالَتْ كِفَّةُ العُمْــــرِ نحــــــوَ أرضٍ جَـديْبَهْ

                                                                        أيـنَ مِنْقـاشيَ الحبيبُ وأيني .. ذهــــبَ الكـلُّ غيـر ذكـرىً غـريبهْ

                                                                        أمْسِ ألقَيتُـهُ بكفّيَ هــــذي. للبــــلى فَليَـصِـرْ، فَلَــــنْ أستغْيبَـــهْ

                                                                        هو طبْعُ الفنَّانِ يحنـــــو إلى الماضي وإنْ كانَ مُثْقلاً بالمَشوبَهْ

(يهزُّ رأسَهُ قليلاً وينهض)

                                                                       فـانهضــي انهضــي، ففي جَنَبــاتي ثورَةُ الهِمِّ نارُها مشبوبَــــهْ

                                                                       وخذيني إلى المفــــازةِ، للسَّفْحِ، لِبَعْضِ الأجبـــالِ، نَفْسي كئيبَهْ

(يخرجان)

«المشهد العاشر»

(تُطلّ “فينوس” و”أبولون” من النافذة)

أبولون:

                                              ويحَ نفسي عليكَ، يا مَيعَةَ الفَنِّ، ويا فِكْرَةً سَمَتْ ثم سَفَّـــــتْ

                                             قد خَلَقتَ العُجابَ، ثم تمشَّى في طريقٍ وضيعَةٍ حيثُ مُسَّتْ

                                             أسفي للفُنونِ تَسْفُلُ حتى تتساوى والناسَ، يــــومَ تَجَلَّـــــتْ

                                             ويحَ نفسي عليكَ

فينوس: (مشمئزّةً…)

                                                                  فيمَ التأسّي؟..أَوَلَسْنا نَحْنُ الإلهاتِ مِثْلَـهْ

                                             كانَ فَنّاً، وكـــانَ فِكرَةَ فَنٍّ، ثُمَّ ما طرَّ حيــــنَ وَدَّعَ عَقْلَــهْ

                                             طَلَبَ الرُّوحَ، فاستمَعْتُ إليهِ ثم وافيتُـــــهُ بما شاءَ، كُلَّـهْ

                                             إنْ يَكُنْ يَجْهَلُ الحقيقةَ للرُّوحِ فما ذنبي؟..

أبولون:

                                                                                                    يا لَهُ مِنْ مُؤلّــهْ

فينوس: (بعجب)

                                          أوَ أنتَ الذي تقولُ بهـذا؟.. صَغُرتْ قيمةُ الإلــهِ فَمَنْ لَــهْ

أبولون: (بِهَوادَة)

                                          نحنُ مَـنْ نحنُ؟.. لا جَـمَـالٌ ولا نُـبْـلٌ ولا عِـفَّــــةٌ ولا أيُّ شــيِّ

                                          أَتُرانا نسْطيعُ تطهيرَ نَفْسٍ مِنْ دناســــــاتِ طبعِنا الإنسِيِّ؟

                                          نحنُ إنسٌ، وذاكَ مِنْ طينَةِ الفنّ، تعالَى عن جوّنا الوَحشيِّ

                                          وانْحَطَطْنا نُدَنِّسُ النَّفْــسَ بالنأدِ وبالحِقْـــــدِ والرّياءِ الخفيِّ 

                                          أينَ مِنَّا طبيعةُ الفَنِّ، بَلْ أينَ بقايــــا سُمُـــــوِّهِ العبقَـــــريِّ

                                          فاتَنَا مِنْ حقيقــــــةِ الفَـــــنِّ إلّا كبرياءً خَرْقاءَ ليستْ بشيِّ

فينوس: (متعجبةً وزاجرةً)

                                          ويْكَ “أبُّوْلُ” ما تقـــــولُ وتعني؟ نحنُ سُكَّانُ منزلٍ قُدسيِّ

                                          كيف هذا؟…

أبولون: (نافراً)

                                                    حقيقةٌ لا رياءٌ .. لَسْـــتُ مِنْ طِينَةِ الرِّياْ، المَخزيِّ

                                                                                       (لنفسه)

                                         ويحَ نفسي عليكَ، يا مَيعَةَ الفَنِّ، ويا فِكْرَةً سَمَـــــتْ ثم سَفَّتْ

                                         قد خَلَقتَ العُجابَ، ثم تمشَّى في طريقٍ وضيعَةٍ حيثُ مُسَّتْ

                                         أسفي للفُنـــــونِ تَسْفُلُ حتى تتسـاوى والناسَ، يــــومَ تَجَلَّــتْ

                                         ويـحَ نفسي عليـكَ، كُنْتَ نقيّـاً، فـإذا الرّوحُ دنَّسْـتَ حيثُ حَــلَّتْ

                                                                                                                                                 (يتواريان)

  «الستار» 

**الفصل الثالث**  

                     يُحطّمنا أملٌ كاذبٌ                  نُحطّمُ – مِنْ فِعْلِه – رأسَنا

                     ويـرفعُنـا أملٌ كاذبٌ                  نطيـــــرُ فنجعلــهُ رِمْسَــنا!

                                                                                                                                                                                                          – زهير –

المسرح

(كما كان في الفصل الأول والثاني تماماً … يظهر عدم الاعتناء على أثاث الغرفة. الغبار يعلو القواعد الرّخامية بشكل ظاهر … وتبدو عدم النظافة جليّة. ليس فيه من أحد .. موسيقى عادية. الوقت قُبَيل الفجر …)

«المشهد الأول»

  (“فينوس” و”أبولون” يُطلان من النافذة فلا يُبصران أحداً. ينقِّلان نظرهما في أنحاء الغرفة فلا يريان أحداً …)

أبولون: (باستفهام وغرابة)

                                    أَوشكَ الفجرُ أنْ يُطِلَّ، ولمّا يأتِ فَنّانُنا يَجُرُّ صِحَابَهْ

                                    عجبي!…

(يقلِّبُ نظرَه مرة ثانية في أثاث الغرفة ثم يلتفت إلى ناحية أخرى …)

أبولون: (إلى فينوس دون أن ينظر إليها)

                                                   ما تقولُ فينوسُ؟…

فينوس: (بقلة اكتراث)

                                                                       مَنْ يدري؟..

(فترة صمت، لا يزال أبولون خلالها يقلب نظرهُ في أثاث الغرفة….)

أبولون: (لنفسه)

        غريبٌ!…

فينوس: (باستفهام مقرون بعدم الاكتراث)

                                                                                                     وأينَ وجْهُ الغَرابَهْ؟..

              عَلَّهُ لا يزالُ يرتَعُ في السَّفحِ ويَحْسو مِنْ الدِنَاْنِ شَرابَهْ

                                                          عَلَّهُ !…

(تدير وجهها إلى الناحية الأخرى …)

أبولون: (حزيناً مشفقاً)

                                لَــيْـتَـنيْ رُؤىً في نُـهاهُ … ليتَ أستطيــعُ أنْ أُزِيـــلَ اكتئــــابَهْ

                                إنَّما واجبُ الإلــهِ وَحيـــــدٌ: أنْ يُــريْ عَبْدَهُ مِـــنَ الصَّفوِ بَابَــــهْ

                                كلّما أُغلِقَتْ طريقٌ إلى الصَّفوِ، أزاحَ الأسبابَ كـفُّ الـرَّحَـابـهْ

                                إنْ يَكُ العَبْدُ يَعتَريهِ جنونٌ ثُمَّ يَغْلُو، فَلَنْ يُطيــــلَ انصِبابَــــهْ

                                إنَّــما تَـعُـوزُ العبيــدَ ثـــــوانٍ هي صِــدْقُ الـغَـريــــــزَةِ الوَثّابَــــهْ

                                فتراهُمْ أوهَى مِنَ الحَمَلِ الوادِعِ أُنْسـاً، إذا أرادوا المتـــابَـــــهْ

                                ليسَ يدري حقيقةُ اللهِ إلّا اللهُ!…

فينوس: (بنفور وتضايق)

                                                                                     ما بالُنا وبَالُ سِواناْ

                                  استمع!

(يصغيان …)

أبولون: (وهو يُصغي بسمعه…)

                                مَـنْ تُــــــرى يُـغَـنّي؟.. أَهـــذا مُــنْـشِــــدُ الحُـــــــبّ؟ لَـيـتَــــني إنْـسـانا

                                عَـذَّبَتني حـقـيـقــــــةُ اللهِ، مِـنْ هَمٍّ ويــــــأسٍ، وإنْ أَكُــنْ سُلْطــانا!

                                إنّـمـا أبـتَـغي الهُدوءَ، وإنْ كـانَ بـلا عَقْلٍ، فقــــد مَلَلْــــــتُ الهَوانا

                                إسمعي إسمعي!.. فهذا غِنـــاءٌ مِنْ عبيــــــدٍ قَدْ أَلَّهُوا الشَّيطانا!

                                حـيـثُـمـا العَقْلُ قـائِمٌ، عُـــذِّبَ المَـرءُ، وهذا مِنْ طَبْعِهِ أنْ يُصـــــانا

                                فـاهجريْ العَقْلَ كي نَعيشَ كَما هُمْ!.. لَذَّةُ العُمْرِ أنْ أُرى سكرانا

                                إنَّما يَسْكَرُ الأناسيُّ حتى يفقدوا العَقْلَ!…

فينوس: (متضايقة)

                                                                                                             ما لنــا وسوانا؟..

استَمِعْ  فالنشيدُ ضَجَّ افتتانا ! ..

(يستمعان)

(من بعيد أصوات ناعمة، ينفردُ عنها من حين لآخر صوتٌ حنونٌ يُغَنّي! وهذا الغناءُ يبدأ مُنْذُ أنْ قالت “فينوس” لـ “أبولون” استمعْ! الموسيقى الناعمة ترافق الغناء …)

المغنّي:

                                                       نحنُ في دُنيا هَوانا        يَـمـلأُ الأرضَ غِنانا

                                                       مـا حَمَلْنـا أيَّ هَـــــمٍّ        حَيثُ أهْمَلْنا الََّمانا

                                                       ورَكِـبْـنا الجَهْلَ حَتَّى       مَلَّنا ثُمَّ اجتَــــوانا!!!

الآخرون مُردِّدون:

… نحنُ في دنيا هوانا …

المغنّي:

                                                       في حَــنَايــانـــا ظَمَــاءُ         والغواياتُ الدَّواءُ

                                                       ما يُفيدُ العقلُ شيئاً         فاهْجُرَنَّا يا شَقاءُ

                                                       نحنُ أَلَّهْـنـا المُجُــونــا         فاحتَوانا ورَعــانــا

                                                                         نحنُ في دنيا هوانا

الآخرون: (يردِّدون المقطع الأول)

                                                                        نحنُ في دنيا هوانا!!!

المغنّي:

                                                  أيـنَ “أبولونُ” يَشْـــدو     فـالنَّعيمُ اليــــومَ رَغْدُ

                                                  ثم يسقينــــا سُلافــــــاً    من خلالِ اللحنِ يَبْدو

                                                  نتعاطَى الصَّفوَ صِرْفاً     ثــم نَـلْهُـو بِغِنـــانـــــــا

                                                                     نحنُ في دنيا هوانا …

الآخرون: (مُردِّدون المقطع)

                                                                     نحنُ في دنيا هوانا!!!

المغنّي:

                                                  ذاكَ “بجمليون” مِـنَّـاْ       صَوَّرَ الفِكــرَةَ فَـنَّاْ

                                                  أينَ “فينوسُ” لِتَلْقى       عَبْدَها بـالفَنِّ جُـنَّاْ

                                                  أكـمَـلَ الخَلْقَ ونـاءَتْ       دُونَهُ حتى استبَاناْ

                                                                   نحنُ في دنيا هوانا!…

الآخرون: (مردِّدون المقطع)

                                                                   نحنُ في دنيا هوانا!!!

(يقترب أبولون من فينوس ويهمس)

أبولون: (هامساً)

                               قَدْ أَتَوا!…

فينوس: (باستفهام)

                                              مَنْ؟..

أبولون:

                                                         جماعَةُ الفَنِّ!..

فينوس: (باستفهام أكثر)

                                                                       مَنْ هُمْ؟…

أبولون:

                                                                                                       آلُ بِجْمَالَ!..

فينوس: (بقلة اكتراث واستنكار)

                                                                                               إنْ أَتَوا، ما يَهمُّ؟…

أبولون: (مستنكراً)

                                                       كيفَ تَرْمينَ قولَكِ الغِرَّ هذا؟.. أنتِ أُنثى؛ وكُلُّ أُنثىً تَذِمُّ!

(تبدأ طلائع النور بالظهور ويرتفع على الأثر صوت كمان خافت ناعم وادع،

ومغنٍّ يغنّي من بعيد بصوتٍ ملائكيٍّ ساحر … … … …)

                                                            أنا أدري، أنَّ أهلَ الأرضِ، يبغُونَ الشُّرورا!..

                                                            كلُّهُــــمْ يُعْنى بإيقـــــادِ الأسى، حتَّى يَثُــورا!..

                                                            عَقَدوا الأَمرَ على الحُزْنِ، ولُفُّـــوا في ثيابِـــهْ

                                                            وتَبارَوْا في مجالِ الحُزْنِ، يبكونَ الحُبُــورا!!..

                                                                                        *****

                                                            أنا أدْريْ هَـــدَفَ الإنـسـانِ في هــذا الوجـودِ

                                                            حَـسَـدٌ ثُـــمَّ نِـــــزاعٌ، واقْتِتــــالٌ لـلصُّـعــــودِ …

                                                            أَبَـــداً لا مِنْ جَديــدٍ … كُلُّهُمْ يَعْشَقُ نَـفْـسَـهْ

                                                            ويَرى اللَّــذَّةَ في قَـــــدْحِ سِواهُ مِنْ جَديدِ!!…

                                                                                      *****

                                                            أنا أدري، أنَّ أَهْـلَ الأرضِ شَـــرٌّ مُـسـتَـطــــارُ

                                                            أنا أدريْ، أنَّ نَفْــسَ الإِنْـسِ رِجْـسٌ وشَــنـــارُ

                                                            غيرَ أني عِـفْـتُـهُـمْ لـلعُزْلَــةِ المُـثـلى وحـيــــــدا

                                                            فَسَكَنْتُ السَّفْحَ أشْدو: أَنَا في الدُّنيا هَزَارُ!..

                                                                                    *****

                                                            وغــداً يَـــلْفَــحُـنـا الموتُ، ونَـمْـضي، لا نَـعُـودُ

                                                            وإذا عُـدْنا، فَـغَـيْـرَ الأرضِ نَـلْـقَى، يــا نَـشِـيـدُ!

                                                            فَـتَـرَنَّـمْ إنْ فَـرَرْتَ اليـومَ مِـنْ ثَـغْـري طليقاْ،

                                                            لــــذَّةُ العُمْرِ فِــــــرارٌ لِــبَــعــيـــدٍ، ورُكُـــــودُ!!!..

أبولون: (إلى فينوس هادئاً)

                                        هَلْ وَعَيْتِ القَولَ يا فينوس؟ أمْ لَمْ تَريْ أنْ تَفْقَهي مَعْنَى الحَياةِ؟..

                                        نحنُ، بَعْدَ الغَدِ نمضي! مثلَما قد مَضَى آبــــاؤنـــــا طَــيَّ المَـمـــــــاتِ!!

                                        إنزَعي مِنْ صَدْرِكِ الحِقْدَ، ولا تَعْتَبيْ إنْ فــــاهَ ثَــغــري بــالـهِـنـــــــاتِ

                                        ســــامحيني!.. وأنــــا أيـضـاً، فـمـا أعـذَبَ العُـمْـرَ رَفـيـقَ الخُطـــــــواتِ

                                        وارسِــليْ الـغُـفـرانَ لـلعَبْدِ، فقد ضَـؤُلَ الحِقْــــــــدُ بنفسي للخُطـــاةِ

                                        وخُذي الحِكْمَةَ مِنْ أيـــنَ أتَتْ لا تُـبــــاليْ أنْ تَـكُـنْ مِـنْ حَــشَــــراتِ!!

فينوس: (حانقةً هازئةً)

                                       أتُرى الآن؟…

أبولون: (مقاطعاَ بحنان)

                                                        نعم!…

فينوس: (شامتةً)

                                                                            يا ليتَ لو كُنتَ بالأمسِ كما تَبْغي لآتِ

                                    كُنتَ!…

أبولون: (مقاطعاً برأفة)

                                                         … لا لا تَنْبشي الماضي، ولا تذكريهِ، إنَّهُ من سَيِّئاتي

(باستخفاف)

                                  كنتُ!..

فينوس: (غامزةً)

                                          ما تَعْني؟…

أبولون: (هازّاً برأسه)

                                مَضَى الماضي، ولَـنْ يَنْثَنيْ – إنْ شــئتُ – فــالآتي حيــــــاتي

                                أنا قاربتُ حقيقَ اللهِ، مُذْ عَزَفَتْ نفسيَ عن كُلِّ صِفــــــاتِ

                                إنَّ مَنْ يُوصَفْ، ولَوْ بالخَيرِ ما هوَ إلاّ ناقِصٌ فَقْدَ الصِفـاتِ،

                                عِندها يُدعَى إلهاً!…

فينوس: (هازئةً)

                                ثُمَّ ماذا؟..

أبولون: (وهو ذاهب حَنِقاً)

                                            دعيني !..

(يبتعد غاضباً إلى لا رجعة)

فينوس: (وهي ذاهبة مسرورة لذهابه)

                                                                                                            قَدْ تلاشَتْ مُزعِجاتي!!!

(تبتعد)

«المشهد الثاني»

(يدخل “بجمليون” و”جالاتيا” فيرتمي “بجمليون” على أول قاعدة تمثال)

بجمليون: (يرتفع الغبار على أثر جلوسه)

كيفَ كانتْ نزهةُ الحَسناء؟..

جالاتيا:

               لَهْوٌ، ومَرَاحٌ، وانطِلاقٌ وتَغَنّيْ!..

                                                                   قَدْ قَبَرْنا الهَمَّ مِنْ أمسٍ، ولَنْ نَستَعيدَ اليومَ ما ماتَ ليُضنيْ

                                                                   حَــسْـبُـنـا أنّــا قَضينا فَترَةً قـــــــدْ خَلَتْ مِـنْ كلِّ يـــأسٍ وتَـمَـنّيْ

                                                                    لا تَـلُـمْ نَـفْـسَـكَ، أو تَحْزَنْ، ولا تَبْتَئِسْ، أو تَهْتَزِزْ؛ بَـلْـهَ ولُـمْـنيْ

                                                                    إنّما الزَّوجُ هي “الكُلُّ” فـإن أَلِمَتْ نَفْـسُـكَ أو طـابَــتْ، فَمِـنّيْ

                                                                    بِيَديْ نَفْسُكَ أَضْحَتْ لُعْبَــــــةً، كيفَما شِئْتُ أُداويــــها بفَنّيْ!!!

بجمليون: (رانياً إليها…)

                                                                    حَـبَّـذا لـوْ كـانتِ النِسْوَةُ مثلَكِ، ما ضَــــجَّ رِجـــــالٌ بالتَـــــــأسّيْ

                                                                    إنَّـما، دارُ الفَتى جَـنَّـتُـهُ؛ كيفَ تَغــــدو جنّــــــــةُ الدُّنيــــا كَــرَمسِ

                                                                    لا يخــــونُ المرءُ زوجــاً، طالما لا تُجافيــــهِ بِما يؤذي ويُغسيْ

                                                                    يبتَغي كلُّ رجالِ الأرضِ أنْ يجدوا في الدارِ ما يُرضيْ ويُنسيْ

                                                                    ســـايِريْنــــي؛ فأَنا مُفْتَقِدٌ ذاكَ، كي أَحيــــــاْ لزوجـــي ولنفســــي

                                                                    وإذا العُمْرُ تَقَضّى بالعِتــــــــابِ، فقدْ ماتَ وئيـــــداً دونَ حِسِّ!!…

(في هذه الأثناء تكون جالاتيا تقلب نظرها في أثاث الغرفة وأحياناً تمدّ يدها وتمسح قليلاً بعض قواعد التماثيل وتُظهر اشمئزازها …………)

جالاتيا:

                                                                   ما هذا؟ نَقْـــعٌ؟ أم ماذا؟ وَسَخٌ؟ بِئْسَ العَيْشِ القَاتِــــمْ!

                                                                   ما اعْتَادَ المَمْثَلُ أنْ يبدو قَذِراً .. ويحي!.. قُمْ يا جاثِمْ

جالاتيا: (تسعى لتفتش عن المكنسة…)

                                                                   أبــــداً نَسْعى لسعادَتِنا وبسيــــطُ الشيء، هو الحاكِمْ …

(وهي تفتش متأفِّفة)

                                              والمِكْنَسَةُ اللُّعْنى، ضاعَتْ؟..

بجمليون: (يشمئز من هذا اللفظ ثم ينتبه فُجاءَةً)

                                                                                 ماذا تبغينْ؟..

جالاتيا: (تكون قد وجدت المِكنَسَة … ثم تبدأ بالتكنيس من الطرف الأول. الغبار يتعالى)

                                                                                                           لقد وُجِدَتْ

بجمليون: (منزعجاً)

                                           ما هذا؟..

جالاتيا: (وهي تكنّس)

                                                            تكنيسٌ!..

بجمليون: (شبه مذعور)

                                                                             كُفّيْ!..

(تتمّم عملها بسكون فيتعالى الغبار …)

بجمليون: (متضايقاً)

                                                                             نفسي قَدْ ضاقَتْ واكْتَأَبَتْ

جالاتيا: (وهي مستمرة في عملها والغبار يتعالى)

                                أوَ لَمْ أَهْتفْ بِكَ أنْ قُمْ؟..

بجمليون: (مزعوجاً ومتضايقاً وصارخاً)

                                                                         لا!..

جالاتيا: (مداعبة)

                                                                                بَلْ قُلْتُ الآنَ!..

بجمليون: (لنفسه مزعوجاً)

                                                                                                      لَقَدْ وَضُعَتْ!..

(فترة صمت .. الغبارُ الغبارُ!!..)

جالاتيا: (وقد أصبحت بجانبه وهي تكنّس)

                                 قُمْ

بجمليون: (ينتقل إلى قاعدةٍ رخاميةٍ أخرى ويبدو عليه التذمُّر)

                                             وَيحيْ !!…

جالاتيا: (وقد اقتربت منه ثانيةً وهي تكنّس)

                                                                                قُمْ

بجمليون: (ينتقل إلى قاعدةٍ رخاميةٍ أخرى ويزدادُ تذمّرُه)

                                                                                                وَيْحيْ!!…

جالاتيا: (وقد اقتربت منه ثالثةً وأصبح الغبار يملأ المسرح)

                          قُمْ

بجمليون: (متضايقاً وقد أصبح لا يستطيع التنفس)

                                             لا!..

جالاتيا: (تقترب منه وترفعه من مرفقه برفق)

                                                                                       أو ترغَبُ في أرضٍ وسِخَتْ؟..

(يقوم بجمليون وقد بدا عليه التّذمر الشديد وبوادر الحنق)

بجمليون:

                                                 ويحيْ! بَلْ ويْحَ “فِنُوسَ” فَقَدْ حَطَّتْ مِنْ قَدْرِ الفَنِّ العَاليْ

                                                 جَـعَـلَـتْــــهُ يُـكَـنّـسُ كـــالإنـســـــانِ، وشِئْتُ لِأجْعَلَـــــــهُ غاليْ

                                                 تـبّــــــاً لِـفـنُــــوسَ، ولِـلأرواحِ إذا وُجِـــــــــــدَتْ لـلإضـئـــــالِ!..

(يخرج مندفعاً)

«المشهد الثالث»

(جالاتيا لوحدها … مستفهمةً)

جالاتيا:

                                                أصبَحَتْ نَفْسُهُ تضيقُ بِفِعْلي؛ أتُراهُ قدْ مَلَّني واجْتَواني؟..

                                                مَنْ تُرى يَعْلَمُ الحقيقةَ مِنهُ؟.. ثُمَّ؛ لمْ يأنِ أنْ يَمَلَّ كيــانيْ

                                                لمْ أكُنْ مِنهُ غيرَ أُنثىً، عَشُوقٍ فَنَّهُ ثم شَخْصَهُ بافتتـــانِ

                                                أنا ألّهْتُهُ! بَلِ الحـــقُّ أنَّ الفَنَّ قدْ أَلّــــهَ المِفَنَّ الحــــــاني

                                                أمسِ قدْ صاغَني مِنَ الفِكْرِ حيّاً واحتواني بِلُطْفِهِ ورَعـــــاني

                                                كَمْ ليالٍ قدْ باتَها؛ وهو سَهْرانُ، ليأتيْ بيْ دُميَــــــةً للحِســـانِ

                                                ثُمَّ وافَيتُــــهُ بـــأنْ قَدْ ضَـــــلَلْتُ السُّبْلَ، لَمّا أحاطَني بِحَنـــانِ

                                                أنا أنسى لما بكى مِنْ حُبُورٍ؟.. عِندَما الرُّوحُ سارَ في جِثماني؟

                                                دَمْعَةٌ مِنْ حَقيقـــةِ الفَــــنِّ، صُبَّتْ، نَبْعُها القَلبُ مِنْ نُهى الفنَّانِ

كانَ بَرّاً بي، حيــثُ كنتُ عَقُــــوقاً. أتُراني جَرَحْتُــــهُ بِلِساني؟..

لَيتَنيْ ما عَقَقْتُهُ، ليــــتَ ما كَنَّسْتُ؛ بَلْ ليـــتَ لو يَرى غُفراني!..

«المشهد الرابع»

(تدخل “إسمين” و”نرسيس” مَرِحَيْن)

نرسيس: (جذلانَ فَرِحاً)

أيْنَ “بجمالُ” !.. يا حياتي فِداهُ!.. إنني الآنَ أسعَدُ النّاسِ طُرّا!

قد نَعِمْنا بوَقتِنا، وجَنَينا مِنْ رياضِ الأفراحِ ، صفــواً وزَهْـرا

                                       أينَ هوْ؟..

جالاتيا: (بحزن)

                                                قدْ مضى؟..

إسمين: (بلهفةٍ واستفهام)

                                                                   مَضَى؟ ..

نرسيس: (متسائلاً)

                                                                             وإلى أيْنَ؟..

جالاتيا: (حزينة)

إلى حيثُ يبتغي الصَّفوَ دهرا

نرسيس: (متسائلاً بلهفةٍ زائدة)

ما تقولينَ؟.. قدْ مَضى لَنْ يَعودَ اليوم؟..

جالاتيا: (كاسفة البال)

لا أدري!..

(ينطلق نرسيس مُهرْولاً كالسهم ويخرج)

إسمين: (بِكُرْهٍ)

قدْ نأى عنكِ حُــرّا

أنتِ عَذَّبْتِهِ بِهَجْرٍ وصَدٍّ؛ وجنانُ الفَنَّانِ يأْنَفُ هَجْـــرا

كُلَّما زِيْدَ في الدّلالِ عَليْهِ غُصَّ حَلْقاً، وناءَ بالهَمِّ فِكْرا

جالاتيا: (حانقةً)

لا تزيدي عليَّ لَوْماً، ففي نَفْسيْ امتِلاءٌ

إسمين: (مُستَهتِرَةً)

                                                                                 أَلْآنَ أدْرَكْـتِ سِرّا؟؟؟

لِمَ لا ترحمينَ “بِجْمالَ” حَتَّى تَجْعَليْ عُمْرَهُ شَقاءً وشَرّا؟..

جالاتيا: (متأففةً)

أنْتِ مَنْ أنْتِ؟..

إسمين: (مستفهمةً باحتقار)

بَلْ تُرى أنتِ مَنْ أنتِ؟!!

جالاتيا: (طاردةً)

اخْرُجي مِنْ هُنا فقد زِدْتِ أمْرا

                             أُخرُجي!

إسمين : ( تهمّ أن تتكلم فيُسمَع من بعيد صوت بجمليون)

بجمليون: (من بعيد حانقاً مُزمجراً داعياً)

يا “فنوسُ” هذي حياتي فَخُذيـــها، أَو أَرْجِعي لي ماْ لـــيْ

أنا أَبْدَعْتُها مِنَ العاجِ أُنثىً غَيرَ أُنْثاكُمُ السَّخيــــفِ البــــاليْ

أَنا أَكْمَلتُ خَلْقَها، ثُمَّ بالرُّوحِ تَدنَّتْ، فَذاكَ غيـــرُ سُؤالــــيْ

أَنا لَمَّا رَغِبْتُ بالرُّوحِ، لمْ أَدْرِ بأنّي قَدْ بِعْتُ بالبَخْسِ غـاليْ

فَخُذي الرُّوحَ، ذلكَ العِبْءَ عنِّي، ودَعينيْ وفِكْـرَةَ المَثَّـــالِ

إِنَّها فكرةٌ، تَسَامَتْ، وحَلَّتْ صَدْرَ هذا الوجودِ، فوْقَ العـــاليْ

وأَعِيدي إلَيَّ رَمْزي كما كانَ؛ مِنَ العَـــاجِ جامِداً؛ تمثــــالي

خالياً مِنْ دَناسَةِ الرُّوحِ والشَّرِّ، جديراً بالحُـــــبِّ والإجــلالِ

ولِهذا خَلَقْتُــــهُ، لاْ لإِثمٍ وانحطــــاطٍ وذِلَّـــــةٍ وابتــــــــــذالِ!…

إسمين: (وهي مُهَرْولةً نحو الخارج)

ضاعَ مِنْكِ العظيمُ يا أحْقَرَ النَّاسِ!…

(تقف جالاتيا حيثُ هي فوقَ التمثال وقد ثبت نظرها جامداً لا حراك به، مستغرقةً في تأمُّلاتها .. ثم تنبثُ شفتاها هذه الكلمات)

جالاتيا:

نعم!.. ضَاعَ!.. ثُمَّ ضِعْتُ!.. فَياْ .. لي

«المشهد الخامس»

(تقترب فينوس من المسرح وتُطلّ من النافذة)

فينوس: (تُقلِّب نظرها في المكان طويلاً، ويقع بصَرُها على تمثال “جالاتيا” في موقفها ذاك، فتهتف   به برهبةٍ وإجلالٍ وخشوع…)

عُدْ كما كُنْتَ للجَمادِ، ولا تَرْجِعْ!.. فَكُلٌّ لِأَصْلِهِ سَوفَ يَرْجِعْ!

(تختفي فينوس)

[/et_pb_gallery]

«المشهد السادس»

(التمثال جامد. لا شيء في المسرح غيره كما كان)

(هناك قواعد رخامية نظيفة، ومقاعد مبعثرة، بعثرتها “إسمين” وهي منطلقة؛ وكذلك “نرسيس”! تبدأ طوالع الزوبعة والإعصار من الرياح الشديدة. السّتار الشفّاف تداعبه الرياح فَيَنْسَدِل، ويرجع الممثَل كما كان في مطلع الفصل الأول تماماً ..

رياحٌ خفيفة أولاً تداعبُ الستار الشفّاف، ..

“جالاتيا” فوق القاعدة الرخامية!

موسيقى العاصفة ..

يُسْمَعُ من بعيد زمجرة الرياح!…)

«المشهد السابع»

(يدخل “بجمليون” متباطئأ. يظهرُ عليه الكِبَرُ تماماً. منفوش الشَّعر، زائغ البصر، يلهث لهاثاً مضطرباً متتابعاً ثم يخفّ. يستندُ إلى تمثالٍ نصفيّ استنادةَ التَّعِبِ المنهوك.

الرياح وثورتها يقتربان .. وموسيقى خفيفة ولكنها تنذرُ بالثورة … … …)

بجمليون: (بإعياء)

وَهَنَتْ قُوّتي!..

(بعد فترة)

وَمِلْتُ إلى المَوتِ..

(بعد فترة)

   وَعَيَّ اللسانُ …

(بعد فترة)

                                                          والقلبُ يَقرَعْ!

ويقيني إنَّ المصيرَ … قريبٌ

(ينظر حواليه .. بعد فترة)

بَصري زاغَ!..

(بعد فترة)

والنُّهى ليسَ يَسْمَعْ!

وأَراني يَبِسْتُ عُضْواً فَعُضْواً …

(بعد فترة)

                    وتَمَشَّى الإعياءُ فيَّ … و… أَسْرَعْ!

كنْتُ أبغي .. ألّا أَذوبَ، وإنْ ذُبْتُ .. فَفي ما ابتدَعْتُ .. أحيا .. وأرتَعْ

كانَ همّي.. ألّا أموتَ .. لَكِنْ تولَّيْتُ .. كأنّْ لَمْ أكُنْ .. وما عُــدْتُ أنْفَعْ!..

(تظهر عليه بوادر الجنون ويصرخ)

ويْحَ عَقلي!..

(تقترب العاصفة)

كيفَ انطلقْتُ إلى “فينوسَ” أبغي أنْ تأْخُذَ الرُّوحَ مِنها؟..

(ثم كالحائر الشارد .. محملق العينين)

سَحَرَتْني!.. إذْ كيفَ أطلُبُ هذا؟..

(يلتفت حواليه)

أتُراني أعيشُ بالبُعْدِ عَنها؟..

                             يا لَعَقْلي!..

(يضحك ثم يكف عن الضحك ويقترب من التمثال المنشود)

بَـــلْ يا لَها من فتاةٍ خَيَّبَتْ ما ظَنَنْــتُ في تمثــالي!..

(ثم يستغرق في التفكير والإشارات والاستفهامات)

كيفَ فَرَّتْ مع اللئيــــمِ وأتعبَتْني وحيداً أحارُ في أحوالي

كيف فَرَّتْ ولم أضعْ في بُناها أيَّ إثمٍ أو خِسَّةٍ في الخِلالِ

بجمليون: (بدهشةٍ واستفهام)

هيَ تُمسي تُكَنِّسُ الأرضَ والمَمْثَلَ؟..

(يضحك بعصبية ويفكر قليلاً)

ما صَنْعَتُها بهذا الحالِ !…

هيَ تُمسي تُكَنِّسُ الأرضَ والمَمْثَلَ؟..

(يقلب كفيه كالحائر. العاصفة تقترب جداً)

أهٍ !.. فقدْ سَعَتْ لانحلالي

(ينفجر ويصرخ بجنونٍ وتَشَفٍّ)

لا!.. رَمَتْني وَدُسْتُها!

(يهدأ قليلاً ويعود إلى صوابه)

      كيفَ هذا؟ .. إنّها صِنعَتي، وفيها أمالي!

أنا أبْدَعْتُها، كَمَا شِئْــــتُ أنثىً مَثَلٌ أعْلىً في كمــــالِ الخِـــلالِ

(يتألم…)

كيفَ فَرَّتْ مع الذميم وألقَتني وحديـــــــداً أدٌ في أحـــــوالي

كيف فَرَّتْ ولم أضع في بنـــــاها أيَّ إثم أو خسةٍ في انحلالِ

وَعَبَدتُ الجمالَ فيها؛ فلمّا حَلَّتِ الرُّوحُ، ضاعَ حُسْنُ الجمـالِ

فاكتَسَتْ حُلَّةَ النساءِ، وسارَتْ في طريقِ الوضـــــاعَةِ القَتَّالِ

(يصرخ بجنون)

أَ”جلاةِ” النبيلُ، يُمْسي وضيعاً؟..

(يصرخ وتكون العاصفة في أشدّها مع موسيقى هائجة جداً متعالية وهياجاً جنونياً…)

خَسِئَتْ لَنْ تَعُودَ للأوحــالِ!..

أنا إنْ مِتُّ، قَدْ تَعيشُ، ومَنْ يدري؟.. فقدْ تنثَني إلى الابتِــــذالِ

ثُمَّ تَحْتَلُّ وَصْمَـــةً في جبيني بَدَلَ الفَخْرِ في الورى وجـــلالي

ليْسَ مِنْ حَقِّها الحياةُ، وحقّي الموتُ، بَلْ يقتَضي الوَفا بالزَّوالِ

(صارخاً بجنون مع العاصفة)

بعْدَ يومٍ أمضي .. وأنتِ؟..

(يفتش عن مطرقته فيعثر عليها فيتناولها ويهجم على التمثال مُحَطِّماً …)

ستَمْضينَ سَريعاً .. وبَعْدَها لَنْ أُبالي

بجمليون: (وهو يحطمها بجنونٍ وبثورةٍ وهياجٍ شديد …)

            (ويَكادُ لا يُسمَعُ صوتُه من شدَّةِ العاصفة)

لَنْ أُبالي!.. ولَنْ أُبالي .. فَمُوْتيْ … ثُمَّ مُوْتي .. تَحَطَّميْ بامْتِثَالِ

(يُجَنُّ تماماً ويصرخُ وقد أوشك على الهلاك)

سيقولونَ: جُنَّ، وابتَاعَ بالعَقْلِ تُراباً .. وعنـــــدها .. لا أُبالي

(يصرخ بجنونٍ وثورةٍ وهياجٍ صَرْخَتَهُ المُدَوِّيَة

وقد أصبحَ رأسُ التمثالِ تحت قدميه هشيماً…)

لا أُبالي!

(ينكفئ على وجهه مُغْمىً عليه، وتنقطع الموسيقى فُجاءةً تماماً؛ ويبقى صَفيرُ العاصفة يتلاشى وئيداً)

«المشهد الثامن»

(يدخل نرسيس)

نرسيس:

ما أرى؟..

(مذعوراً)

ما أرى؟..

(مذعوراً ومستنجداً)

إلهي! .. إلهي!.. جُنَّ “بِجْمالُ”

(راكضاً هناك وهنا …)

                                                                                      حَطَّمَ التِمْثَالاْ!!

(يُهْرَعُ إلى بجمليون وكانَ لَمْ يَرَهُ ويجثو بجانبه)

بأبي أنتَ!..

(يبكي)

ما أصابكَ “بجمليون”؟..

(يهزّه)

قُلْ لي!..

(يهزُّه ثانيةً)

فُهْ!..

(يبكي) (يتحرك بجمليون)

بجمليون: (مرتعشاً)

لا أخافُ الزَّوالا

لَمْ أَمُتْ بَعْدُ؟..

نرسيس: (فزعاً)

لِمْ تَمُوتُ؟..

بجمليون:

أتاني وَحْيُ نَفْسي؛ فقَدْ سَئِمتُ الِنِّضالا

نرسيس: (وهو يسنده على ركبته) (يشير إلى جالاتيا)

أنتَ حَطَّمْتَها؟..

بجمليون: (بضعفٍ)

أجَلْ!

نرسيس: (بأسف)

    وَيْحَ نَفْسيْ فَلَقَدْ ضَاعَ ما خَلَقْتَ، ودَالا

بجمليون:

أيْنَ منّي المنقاشُ؟..

نرسيس:

ضاعَ!

بجمليون: (بصوت خافتٍ)

                                                          أَعِدْهُ!..

نرسيس:

                                                                    لَنْ يَعُودَ المنقاشُ!

بجمليون:

ما أنا أسْمَعْ!

نرسيس: (بصوتٍ عالٍ)

لَنْ يَعُودَ المنقاشُ!

بجمليون: (وهو يتلاشى)

لا! بَلْ أَعِدْهُ..

(بصوتٍ يختنق)

سَوّفَ أُحْييْ “جالاةِ” أُخرى، وأرْفَعْ

نرسيس: (متأسفاً)

لَمْ تَعُدْ قادِراً!..

بجمليون: (وهو يجود بِنَفَسِهِ)

لماذا؟.. لماذا؟..

    إنني .. خالقٌ .. سأحياْ … و .. أَ .. صْنَعُ!!

(يموت)

نرسيس: (مستعبراً بعدَ أنْ يبكي .. يقف)

عَبَثاً نَطْلُبُ الخُلودَ بَني المَوتْ .. فَمَنْ كانَ للرَّدَى لَيْسَ يَنْفَعْ

كُلَّما حَاولَ الصُّعودَ تَعالى وتَعالى .. وسوفَ يَنْكَبُّ؛ أجْـدَعْ!

طِينَةٌ نَحْنُ، ليسَ نعْلوْ عليها .. وإذا كـــانَ، فالنُّهى قَدْ يُخْدَعْ

(يلتفت إلى بجمليون بحسرة)

عُدْ كَما كُنْتَ للتُرابِ، ولا تَرْجِعْ!.. وكُلٌّ لِأصْلِهِ سوفَ يَرْجِعْ

الستار الأخير

تمَّ وضعُها في الثالث من آذار عام 1944 للميلاد، والتاسع من ربيع الأول عام 1363 للهجرة .

دمشق 3/4/ 1944

                                   زهير ميرزا