استقبلتِ الأوساطُ الأدبيَّة بالتَّرحاب والتَّقدير ما نشره الأديبُ الشَّاعرُ زهير ميرزا من أعمالِه الأدبيَّة شِعراً ونثراً في المجلَّاتِ الأدبيَّة كمجلتي الرِّسالة والآداب في مصرَ، ومجلة الأدِيب في لبنانَ، وفي منشورات دار اليقظةِ العربيَّة ومجلة الثَّقافة الأسبوعيَّة في سوريةَ، وما أُذيعَ منها عبرَ أثير محطةِ الشَّرق الأدنى العربيَّة (بي بي سي العربيَّة اليوم).
وحين أصدرَ الفقيدُ مجموعتَه الشِّعرية الأولى في ديوان “كافر”، ومن ثَمَّ إصداره لدراستِه المُميَّزة لأعمال شاعر المهجر “إيليا أبو ماضي” تحتَ عنوان “إيليا أبو ماضي شاعرُ المهجر الأكبر”، حظِيَ العمَلانِ الأدبيَّانِ بالاهتمام والتَّقريظ مِنْ أدباءِ ونقَّاد تواصلَ حتّى بعد وفاتِه، فنجدُ الأستاذ “قطب عبد العزيز بسيوني” يُثني على المؤلِّفِ وكتابِه في مقالٍ في مجلة “القاهِرة” عام 1990 م، ويُفصِّل في بيان منزلتِه في المكتبة العربية. والأمر عينه نجده يتردَّدُ في مجلة “المعرفة” عام 2013 م، في إلمامةٍ أدبيَّةٍ للباحثِ الأستاذ أحمد سعيد الهوَّاش.
ولعل ما يخْتزلُ ذاكَ التَّرحيب والاهتمامَ والتَّقريظ ما كتبَه الأستاذ أنور المعدَّاوي عن الفقيدِ وديوانِه “كافر”، الذي وردَ في مجلةِ “الرِّسالة” عدد 824 عام 1949 م، في مقالٍ تحتَ عنوان “الأدب والفنّ في أسبوع” من خلال “تعقيبات” بدأها الأستاذ المعدَّاوي بـ “توفيق الحكيم في ميزان الفنِّ والنَّقد”، ثم ألحقها برؤيته حول “ديوان “كافر”للشاعر السوريّ زهير ميرزا”، فقال:
“هذه مجموعةٌ شعرية تستحقُ تحيَّةَ القلبِ وتحيَّة القلَم. قالَ صاحبُها وهو يتفضَّلُ مشكوراً بإهدائِها إليّ: (أقدِّم إليكَ هذا الشِّعرَ، صدىً لكلمتك (تحية قلبيَّة وأخرى قلَميَّة)، التي لولاها ولولا “الرِّسالة” ما تمَّ مثلُ هذا اللقاءِ الفكريّ الذي أرجو أنْ يكونَ فاتِحةَ صداقةٍ متسامية، رائدُها الكفْر بالمفاهيم للإيمانِ بها)!… إهداءٌ فيه تحليقٌ وشِعرٌ فيه تحليقٌ، وأنا أحبُّ أنْ أعيشَ في أجواء المحلِّقين منْ أمثالِ زهير ميرزا، سواء كانوا كُتَّاباً أم شعراء.”
وما ذُكِرَ، أمثلةٌ لـ “ما قيل عنه”، وغيرُها من المقالات منثورٌ في مجلَّاتٍ على مدى سنواتٍ مختلفة يمكن الرُّجوع إليها وفق الرَّوابِط أدناه.
– بعضٌ ممّا قاله سامي الدهان في معرض تقديمه لكتاب ” إيليا أبو ماضي ـ شاعر المهجر الاكبر”
” وتطير بي الذكرى إلى سنين خلتْ كنتُ ألقى فيها هذا الطّالب الشابَّ فأرى فيه شاعراً يطاول طموحُه كبار الشّعراء، يتمتم بالنّظيم كما يتنفّس بالهواء، زفرةً بعد زفرة، ضاحكَ السنِّ، يخفي في صدره حكمةً حزينة، كأنَّها بقايا النّدوب خلّفتْها جراح الأيّام في ضلوعه الفتيّة أو زرعتْها قرارة الشّعر الباكي في صدره الغضّ، فقد كان يميل إلى المعرّيّ كلّ الميل، وينزع إلى إيليا أبي ماضي كلّ النزوع، ويقرأ لأبي نوّاس كلّما هزَّه الشّوق إلى الفنّ“.
مقدمة الأديب عبد القادر الحِصني
زهير ميرزا
شاعر لم تنطفئ نار إبداعه
في منعطف النصف الأوّل من القرن العشرين إلى نصفه الثاني، يستطيع متابع المشهد الشعريّ في سورية أن يرصد نمطين من الشعراء: نمطاً أوّلَ: بلغت معه مدرسة الإحياء التي تركت أثرها الكبير في المشهد الشعريّ العربيّ بعامّة مداها وقصارى ما تستطيع تقديمه على مستويي الشكل والمضمون، ونمطاً ثانياً: بدا قلقُه وتململُه الواضحان بإزاء ما آل الشعر إليه على يدِ شعراءِ النمطِ الأوّل الذين أغرقوا بعد أعلامه الكبار في تقليديّة استهلكت جاهزيّة القالب على مستوى الشكل، وترسّبت في التقريريّة والمباشرة إلى درجة كبيرة على مستوى المضمون.
في هذا المنعطف أبدى شعراء النمطُ الأوّلُ تمسُّكًا شديدًا على مستوى الشكل بنظام البيت على ما استقرّ عليه ما بعد الخليل بن أحمد الفراهيديّ… تمسكًا دعاهم إلى مواجهة ما يرونه مخلّاً بما استقرّ عليه، وقد أخذت المواجهةُ مظهرين: الأول: التشبّث بهذا النظام في نظمهم بعدما بلغ عاليًا، آنذاك، على يد شعراء كبار حقًّا: بدويّ الجبل، عمر أبو ريشة، نديم محمد، ومن واكبهم من شعراء ذلك الرعيل، والثاني: مهاجمة شعراء النمط الثاني، والنظر إليهم كعابثين بالشعر: ” فما الشطرتان سوى المقلتين * وفاقدُ إحداهما أعورُ” على حدِّ تعبير صالح جودت، و” على الهوامش ضوضاء منمّقةٌ * باسم الجديد قلاها السمعُ والبصرُ” على حدّ تعبير عبد الرحيم الحصني. بينما ذهب شعراء النمط الثاني إلى تجريب مفتوح في نظامي التقفية والوزن – تُسجلُ هنا محاولات مبكِّرة على هذا الصعيد للشاعر محمد البزم – بلغ عند بعضهم اعتماد التفعيلة في بعض قصائدهم.
أمّا على مستوى المضمون فقد ذهب شعرُشعراء النمط الأول في معظمه إلى المناسبات ومجاراة الأحداث وإلى ما درجت عليه أغراض الشعر القديم لا سيّما في المديح والرثاء، بينما انحسرت تلك المضامين، وقلَّ عددُ قصائدها لدى شعراء النمط الثاني الذين جنحت مضامينُهم إلى الذاتيّة والوجدانيّة المعنيّة بالمعاناة الوجوديّة للإنسان بإزاء الحياة والموت والحبّ، وبما تنطوي عليه هذه المعاناة من إشكالية تُعذِّب العقل، وتقلق النفس، مع نزعة رومنسيّة واضحة لدى بعضهم كـ عبد الباسط الصوفي وعبد السلام عيون السود. وإنّها لنُقلة من شاعر القوم المُعجِب المطرب إلى شاعر الإنسان المُشجي المتأمِّل في علاقات الإنسان بالإنسان لا سيّما الرجل بالمرأة، والإنسان بالوجود بدءاً ومآلاً، وما يتفرَّع عنها من أسئلة يعانيها المحدود والمقيَّد بإزاء اللانهائيِّ والمطلق، وإنها لأسئلة موجعةٌ مشبَّعة بمرارة الأسى في معظمها.
الشاعر زهير ميرزا في أعماله الأدبيّة الشعريّة والنثريّة ينتمي إلى شعراء النمط الثاني الذين أسهموا في مهد هذا المنعطف في المشهد الشعريّ من النصف الأوّل إلى النصف الثاني من القرن الماضي، وما قدّمه من إسهامٍ – في ما أرى – يضعه في طليعة شعراء هذا المنعطف.
فهو على مستوى الشكل، على الرغم من إخلاصه لنظام البيت، لا يستقرُّ فيه إلّا على قلقٍ وتململٍ وهجسٍ بالتجريب لزحزحة هذا النظام عن مستقَرِّه بتقنيات كان أبداها:
-
التحرُّر من النظام التقليدي للتقفية.
-
استنفار الطاقة التلوينيّة الموسيقيّة بالمداخلة ما بين الوزن ومشتقاته من مجزوء ومشطور ومنهوك في إطار البحر الواحد، لا سيّما في الرمَل الذي تبدي تجربةُ شاعرنا ولَعاً خاصّاً به بالإضافة إلى الخفيف، فالمتدارَك على نحوٍ أقلّ.
أمّا الأوزان التي جاء عليها معظم الشعر العربيّ القديم: الطويل والكامل والبسيط فقد كانت أقلَّ حضوراً في أشعاره التي ضمّها هذا الكتاب.
-
توظيف البناء المختلف لتوزيع الأبيات والأشطر وتنويع القافية في النشيد والأغنية.
-
التوقيع على إيقاع الأغنية في اللهجة العاميّة بما يخرج على الأوزان المألوفة.
-
تطويع توزيع الجمل الشعريّة في البيت الشعريّ الواحد والمقطع على أصوات الحوار في مسرحه الشعريّ.
واكب هذا الشغل الذي يحاول الاختلاف والافتراق في الشكل عن السائد شغلٌ كان مختلفاً في المضمون أيضاً. فعلى حين كان السائد قائماً في معظمه على غنائيّة وعاطفيّة تثيران وتطربان وتحرِّضان وتلبّيان جمهوراً يريد من الشعر وهلته الأولى التي تكون متجاوبةً غالباً مع ما في نفس المتلقّي وتفكيره، نجد شاعرنا في قصديّة – عبّر عنها بالنثر نظريّاً وبالشعر تطبيقيّاً – ينحاز إلى الفكر في الشعر، ويرى في أبي العلاء المعرّي أنموذجاً يُحتذى في ذلك. لذا جاء شعره منهمكاً بهمٍّ فكريٍّ زاخر بالأنظار التي تقتضيه المعالجة والتحليل الشعريين، وصولاً إلى عقل المتلقّي ونفسه في آنٍ واحد. وذلك بإبراز المعاناة الإنسانيّة التي تدعو إلى هذه الأنظار. وهكذا حفل شعره بقضايا كثيرة، أبداها: علاقة الرجل بالمرأة في الحبّ وما يشوبها من رؤى تقتضي المراجعة، على الرغم من انحيازه المصرَّح به إلى العذريّة والطهرانيّة، إذ في علاقة الفنّ بالأخلاق – كما يعالجها الشاعر – تبرز ثنائيّات المعنويّ والحسّيّ والمقدّس والمدنس والعابر والخالد… حتّى الحياة والموت… الموت الذي يراه شاعرنا في غير موضع لوناً من الفناء الذي لا يُخرج من الوجود إلى العدم، بل إلى لونٍ أرقى من الوجود في نزعة صوفيّة واضحة.
في كلّ ذلك قد نتّفق مع الشاعر فكريّاً، وقد نختلف، ولكنّنا لن نختلف معه شعريّاً أبدًا، إذ إنَّ ما بثّه من نظر في هذه القضايا جاء حارّاً ومعتلِجاً ونابضاً بالحياة، وينمُّ عن صدقٍ في المعاناة. ثمّ إنّ للشعر وللفنّ على وجه العموم ملاكاً شافعاً يأخذ بيده إلى الغفران على الرغم من اضطراب الدروب التي يسلكها إلى ما يريده وإلى ما يُراد له، ألا وإنّه ملاك الجمال… وقد كانت له مواطن كثيرة سكن فيها، وسكن إليها في أشعار هذا الديوان، منها: الرشاقة الساحرة في المفردة والتعبير لا سيّما في غزله، حتى لتقتنع فعلاً أن الغزَل والغزال والغزْل من جذرٍ لغويٍّ واحد. فقد غزلَ زهير ميرزا ونسجَ فإذا بالمعاني تَمثُلُ للذائقة مجسَّدةً بالمباني من الحروف والكلمات وتتاليها سابقةً الفهمَ في تلقّيها. والأناقة في البناء المصنوعة برهافةٍ حدَّ امِّحاء أثر الصنعة، إذ تبانت الأبيات في المقاطع، والمقاطع في القصيدة تبانياً يُذكِّرنا بما بين الإبداع والخلق من وشائج. والإحكامُ في التصويرالذي يُفاجئ فيه الخيالُ الواقعَ بالأثر الذي يتركه في النفس، فيصير واقعا آخرَ يُعاشُ فيه أيضاً. والغنى في الموسيقا التي أسهم في تلوينها ذاك القلقُ الساعي حثيثاً إلى زحزحة بناء النصّ والوزن والقافية عن الاستقرار الرتيب.
هذا إلى جماليات أخرى يمكن للدرس أن يجلوها، ويقدِّم الشواهد عليها بأكثر مما تستطيع هذه الكلمة في تقديم هذا الكتاب، ويمكن أن يقف على ما التقى فيها من مؤثرات، لا سيّما مؤثرات المعاصرين للشاعر كبشارة الخوري وإلياس أبو شبكة وعبد الباسط الصوفي.
في ختام هذا التقديم لا يسعني إلا النظر بعين التقدير إلى هذه التجربة الأدبيّة وصاحبها، فهي تجربة تنمُّ عن حوار واسع الطيف ثقافيّاً مع أعلام كبار على الساحة العربيّة، لا سيّما في مصر ولبنان كتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة. وعن مقدرة على الإبداع في أجناس أدبيّة عدّة في الشعر والقصة والمسرح والمقالة في عمرٍ قصير نسبيّاً لتجربة عاجلها القدر، وهي في ريعانها، ولمّا تفصح عن معظم ما لديها.
كما أتوجّه بالتحيّة إلى من أعدّوا هذا الكتاب، فقد أسدوا يداً بيضاء إلى المكتبة العربيّة، وأحيوا ذكر الشاعر وذكراه لأجيال قد ترى في إبداعه أكثر وأعمق مما رأينا.
عبد القادر الحصني
القاهرة: 9/ 1/ 2022
إضاءات على كتاب “زهير ميرزا، فقيد الشعر والشباب”
بقلم غسان يوسف مزاحم
شاعر شامل أقل ما يوصف به هذا المبدع، فهو لم يقتصر في شعره ونظمه وقصيده على لون واحد بل تداول وباقتدار أغلب ما يمكن تداوله وتناوله من تلك الألوان فجاشت به نفسه وسكبه على الورق مقطوعات وقصائد وأناشيد ومسرحيات شعرية، ليس هذا فحسب ولكنه بقي وفياً لتلك الموضوعات وفاء تجلى في متابعة تلك الألوان وتجلى كذلك في ثبات موقفه منها مما يدل دلالة قاطعة على أصالة هذا الشاعر وعلى نبل مقصده وعلى أن نفسه وقلبه ووجدانه ظلت تخفق بتلك الأحاسيس والمشاعر حتى انطفأت في يوم حزين من أيام شهر شباط عام 1956 عندما هوت به الطائرة فسكن وسكت ذلك البلبل المغرد وهو في أوج شبابه وعطائه وعنفوانه، فوا أسفاه.
كتب هذا المبدع في الغزل، فكان غزلاً عفيفاً طاهراً عذرياً كله مشاعر وأحاسيس تقدس الحب الذي خلقه الله في قلب البشر ليسمو به عن سائر المخلوقات، فلا نرى في قصائده فحشاً أو خدشاً للمشاعر أو خروجاً غير مألوف يلوث هذا الشعور الإنساني السامي فلا ينحدر به من عليائه إلى أسفل سافلين كما فعل كثيرون غيره اعتبروا الحب دنساً ولؤماً وشهوة واستفزازاً للمشاعر واستنهاضاً للبهيمية واستعراضاً للحيوانية.
وفي الكتاب تسع وثلاثون قصيدة في الغزل تختلف وتتنوع في المناجاة والعتاب والحسرة وغيرها من المشاعر وكنت آمل أن ترتب القصائد ترتيباً زمنياً حيث يمكن من خلالها تتبع سيرة هذا المبدع وكيف تطورت عنده الأحاسيس والمشاعر تبعاً للأيام والسنين ولاستطاع قارئه ومن ثم دارسه أن يتابع باطمئنان ووضوح كيف تدرجت هذه الأفكار والرؤى. وعناوين القصائد أيضاً تشي بوضوح بحساسية هذا المبدع ورهافة مشاعره وإخلاصه في وصف تلك الأحداث التي مرت به. وقصارى القول لو أن العناوين جمعت معاً لخرجنا منها بمقالة لطيفة مبهجة وسامرة وحزينة ومؤثرة في آن معاً تعبر عما مر به الشاعر في حياته العاصفة من محن وخيبات..
وفي الغزل لوحظت قصيدتان عن شهرزاد كان يمكن إيرادهما على التوالي ولستا متباعدتين، وفي القصائد أيضاً قصيدة مغناة وهذا يعني أن هذا الشعر قابل للتلحين والشدو بكل تأكيد.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو أشعار الوجدانيات، وقد احتوى على أربع وعشرين قصيدة، منها أربع قصائد رثاء، والباقي ففي موضوعات وجدانية شتى.. فمن حيث الشكل فإنني كنت أفضل أن توضع قصائد الرثاء تلك في قسم قصائد متفرقات ولم أر موجباً لوضعها في الوجدانيات. أما من حيث المحتوى فقد لمست فيها تكلفاً وتكراراً وإطالة تلفت النظر. ففي رثاء نسيب له أنشد قصيدتين عند وفاته وفي أربعينه واحتوتا على ثلاثة وسبعين بيتاً. كذلك الأمر في أربعين شخص آخر قصيدة مطولة احتوت على ثمانية وأربعين بيتاً. والملفت للنظر أن الشاعر أنشد في الزعيم السوري الكبير سعد الله الجابري قصيدة احتوت على خمسة أبيات.
وفي هذا القسم من الوجدانيات ثلاث قصائد لا بد من الوقوف عندها: أما أولاها فهي قصيدته المعنونة بـ: الميلاد الخالد والتي ألقاها في مهرجان أدبي كبير أقيم على مدرج الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً) وذلك بمناسبة مرور ألف عام على ولادة أبي العلاء المعري (363-1363 هـ) وصادف عام 1943 م، والقصيدة من عيون شعر هذا المبدع فهي قصيدة موزونة مقفاة واحتوت على عبر وحكم ونظرات مدهشة ورائعة أوغل فيها مبدعنا في فلسفة المعري ونظرته إلى الحياة والوجود واليأس، وتعتبر من أجمل وأبلغ ما قيل في فيلسوف المعرة واحتوت بأبياتها الستة والستين على خلجات نفس ونبضات قلب الشاعر. وآمل أن يوضع نصها كاملاً في متحف المعري.
وأما ثاني هذه القصائد فهي: قصيدة حسرة، ومما تجدر الإشارة إليه إلى أنها آخر ما كتب الفقيد ونشرتها في حينه مجلة الصياد اللبنانية وكأن الشاعر فيها يتنبأ بموته في مشهد حزين فيه الكثير من الحيرة والكآبة والقنوط والغوص في أعماق النفس. فكم عانى هذا الشاعر وكابد وعاش بائساً غريباً باحثاً عن استقرار نفسي أغلب الظن أنه لم يجده. وأما ثالثة القصائد فهي قصيدة: غريب في عام 1952 وكتبها في المملكة العربية السعودية عندما انتدب للعمل فيها، وهي قصيدة سكب فيها الشاعر من أحاسيسه وخلجات نفسه ومعاناته وعتابه الكثير، وتمثل بحق نجواه وافتقاده للأنس والأنيس ولوعته والغربة التي أمعنت في وجعه.
وفي قصائد الوصف احتوى هذا القسم على عشر قصائد تنوعت في الموضوعات وهي في مجملها قصائد وقعها لطيف ومعانيها سهلة وسلسة. وقصيدة لبنان تشي بحب الشاعر لهذا البلد العربي الجميل حقاً. وفي قصيدة الصحراء رؤى فلسفية لا يستهان بها ألمح فيها شاعرنا إلى مكامن الشجن في نفسه اللاهثة المندفعة تجاه سراب ما بلغه من كان قبله ولم يبلغه هو أيضاً. وفي قصيدة الليل مناجاة ساهر حائر تحمله أفكاره وأحلامه وآلامه ومعاناته إلى آفاق بعيدة وأغوار عميقة في نفس حزينة وحيدة، وأعتقد أن هذه القصيدة كان يمكن أن تكون في الوجدانيات فحديثه مع نفسه وحاله واضح ومؤثر.
وفي قسم القصائد القومية والوطنية فقد احتوى على تسع عشر قصيدة تناول فيها الشاعر إشادته بالجيش السوري وقصائد تتعلق بفلسطين وهي في الأساس جزء غال من بلاد الشام وبالتالي من وطننا العربي الكبير. وفي القصائد نفحات أصيلة وحارة من حب المبدع لوطنه سورية وتجاوزه بآماله إلى أقطار عربية أخرى حيث غنى ثورة الجزائر بكل بطولاتها وتضحياتها.
وقد لفتت النظر بكل تأكيد قصيدته عن ذكرى 29 أيار 1945 والبطولات والتضحيات التي قدمها حرس المجلس النيابي السوري. وحبذا لو تكتب هذه القصيدة وتعلق في بهو النواب في المجلس وإشادة بتلك البطولات وذكرى لقائلها.
وأما قصيدة في بلادي فهي القصيدة الرائعة التي رد فيها على قصيدة الشاعر نزار قباني خبز وحشيش وقمر. فعندما قام الأخير بنشر تلك القصيدة لم يكن بوسع مبدعنا إلّا أن يرد عليه فجاءت واضحة المعاني جلية المقاصد تقطر وطنية واعتزازاً بالوطن ومبادئه وتاريخه، وهذا يسجل لمبدعنا لأنه أحس ـ كما أحس كثيرون ـ أن قصيدة الشاعر القباني قد جنحت أكثر مما يجب نحو المبالغة والإساءة وهو ما استدعى عدم مرورها بلا رد أو تفنيد. وفي القسم أيضاً قصيدة بعنوان جيشنا صاغها شاعرنا على شكل نشيد وأذيعت من دار الإذاعة السورية (إذاعة دمشق حالياً).
وفي القصائد المتفرقات التي بلغت سبع قصائد احتوت على قصيدة العيد الحبيب وقد لحنت وتم أداؤها إذاعياً أيضاً.
ومما هو جدير بالذكر أن عدداً من قصائد هذا المبدع غنتها الفنانة الكبيرة والمطربة القديرة ماري جبران، ولم نجد لها أثراً في الكتاب ولعلها ضاعت مع توالي الأيام والسنين.
وأما قسم الحوارات والمشاهد المسرحية فقد استغرق ما ينوف عن المائة صفحة (123) فهو قسم حافل بمشاهد وحوارات صيغت شعرياً وحفلت بآراء ومواقف ومشاهدات في الحياة والوجود والصراع الأبدي الذي لا يكل ولا يمل بين هذا الدهر السرمدي الغارق في القدم وبين الإنسان الذي مهما طال لبثه وبقاؤه في الدنيا إن هو إلّا عابر سبيل في نهاية المطاف. وما من أحد راهن على الأيام والسنين إلّا خسر ذلك الرهان. فلا سبيل إلى الوصال ولا مندوحة من السفر الطويل الذي لا أوبة منه ولا رجوع.
وفي القسم أكثر من مشهد تم إهداؤه إلى الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم ومنها بقية ومصرع المثّال. ويبدو أن تأثر شاعرنا بالحكيم وغيره من أدباء مصر وبخاصة عميد الأدب العربي طه حسين كان واضحاً وجلياً. ولم ينس الشاعر في الحوارات أن يضمنها حواراً بين جنديين مما يعني أنه كان مسكوناً بالوطن وبالأرض وبالحق وبما كان يمثله الجنود. وفي القسم حوار معنون بـ عانس وهو قطعة أدبية متميزة بتلوناتها النفسية وانفعالاتها العاطفية وآملها وآلامها. وحري بمثل هذا الحوار أن يترجم على المسرح نصاً حيّاً مؤثراً ونابضاً بكل المعاني المبتكرة فيه.
والحقيقة أن النصوص المستلة من ديوان كافر، من وحي شيطان مريد بما تضمنته من حكم وعبر وتعابير نفس وخواطر تائهة تبحث عن مخرج ونجاة مما هي فيه تستوجب بحثاً خاصاً مستفيضاً فيه تمحيص وبحث وتحليل وكأني بهذا المبدع وقد أنجزه على مدى خمس سنوات ينبئ بمضامينه ونظرته المتأنية العميقة لما حوله، كما ينبئ عن مدى التردد الذي انتابه ليكون كل ذلك مواكباً ومرافقاً لأحواله النفسية عبر تلك السنين ومما أحدثته الأيام فيها من تبديل وتغيير عبر مروحة واسعة من الآمال والآلام والأحلام والقناعات والخيبات والمفاجآت.
وأما القسم المتعلق بالنثر في الكتاب فقد احتوى أساساً على مؤلفه عن الفضيلة العربية والذي نشرته دار اليقظة العربية بدمشق عام 1950 وفيه أبدع الشاعر في وصف حال قيس وليلى والمفاهيم الأصيلة والتربية القويمة والمشاعر النبيلة التي أحاطت بهذين المحبين النادرين في تاريخ الأدب العربي. والمؤلف ثري بالحوارات والنقاشات والنجوى والمناجاة والرجوع إلى النفس كي تستغني فيما ينبغي وفيما لا ينبغي. وقد أهدى الشاعر مؤلفه إلى والديه (جدي وجدتي لأمي)، رحمهما الله، وإلى صديقين له اكتفى بالأحرف الأولى من اسميهما.
وخُصص قسم من الكتاب للحديث عمن كتب عن الشاعر، وبدئ هذا القسم بالمقدمة التي وضعها الأديب الراحل الدكتور سامي الدهان لمؤلف شاعرنا عن إيليا أبو ماضي وهو كتاب ضخم له قصب السبق في جمع شعر ذلك الشاعر الكبير ومما يلفت النظر أن شاعرنا أعطاه لقب شاعر المهجر الأكبر وهو مالم يسبقه أحد من قبله في وصف مكانة أبي ماضي المتميزة في أدب المهجر.
وفي هذا القسم قصيدة رثاء فيه لصديقه الشاعر مسلم البرازي وعنوانها دمعة في الربيع وهي تنضح محبة ووفاء وذكرى طيبة للفقيد الراحل. كما تضمن القسم مقالة مطولة لشقيقة المبدع الصغرى هند ميرزا، رحمها الله، وكذلك مقالة منشورة في مجلة الثقافة الشعرية بدمشق لابن الشقيقة الكبرى للشاعر الفقيد بقلم غسان يوسف مزاحم ومقالة للسيد أحمد سعيد الهواش في مجلة المعرفة بدمشق. وتعقيباً للناقد المصري السيد أنور المعداوي في مجلة الرسالة المصرية تعليقاً على صدور ديوان كافر، من وحي شيطان مريد في حينه.
خاتمة:
الكتابة عن الشخصيات العامة أياً كانت اتجاهاتها مهمة صعبة للغاية وبخاصة إذا انقضت سنوات طويلة جداً على تواري هذه الشخصيات عن مسرح الحياة. ويزداد الأمر صعوبة عندما يُترك إرث هذه الشخصيات في الأدراج والخزائن أعواماً عديدة دونما سبب واضح أو عذر مقبول كالذي حدث مع هذا المبدع. فإرثه الأدبي ظل خافياً ومخبأ ومحجوراً عليه لمدة تزيد على الستين عاماً بعد وفاته، علماً بأن إرث أي شخصية عامة بعد رحيلها لا يبقى ملك ورثة أو أسرة أو أقارب بل يصبح ملكاً للتاريخ والذين يخفون إرث آبائهم أو أمهاتهم (إن كن أيضاً شخصيات عامة) إما عن جهل أو تجاهل أو أية مشاعر وأسباب أخرى ليست مقبولة أو مستساغة أو مسموحاً بها. لأن توالي الأيام والسنوات بهذا القدر يشكل حلقة ناقصة في تكامل الأحداث وتناسقها وتراتبيتها مما يؤثر بالتالي على المشهد العام ككل والذي تشكل تلك الشخصية ركناً فيه ومرجعاً بغض النظر عن أهميتها ومكانتها وتأثيرها ومساهمتها في الصورة العامة للظاهرة التي تمثلها في حقل إبداعها ونضالها وجهادها في الحقل والمجال العائد لها وما تمثله.
وهذا المبدع الراحل تميز بإنتاج غزير خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز الأربعة والثلاثين عاماً. فإذا افترضنا أنه ابتدأ في قرض الشعر وفي الكتابة وهو في السادسة عشرة من عمره فإن رحلة إبداعه لم تستكمل العقدين من السنين. وخلال هذه المدة القصيرة جداً أبدع أغلب ألوان الشعر من غزل ووصف ووجدانيات ووطنيات ومسرحيات شعرية ومؤلفات نثرية فكأني به يكتب ويؤلف ليله ونهاره ويصل أيامه وشهوره في سباق بينه وبين الزمن أو كشعور خفي اختلج في أعماقه وأسرَّ له بأجله القصير وبقدره الذي يتربص به.
كذلك الأمر فإن هذا المبدع ظل وفياً للوزن والقافية في تماثل واضح لوفائه للقيم التي اختطها في حياته فهو في الحب من أنصار الطاهر العذري النقي، وفي الانتماء فهو أنصار الوطن بكل ما يعنيه.
وقد اعتور الكتاب نقص واضح في عدم الإشارة إلى مذكراته. صحيح أن أشعاره الوجدانية والعاطفية وحتى الوصفية أوضحت ووشت عن كثير مما اعتمل في نفسه ولكن الأصح أيضاً أن المذكرات تشي أيضاً بأمور في غاية الأهمية وفي لحظات خاصة يمر بها الشاعر المبدع فلا تنطلق شعراً ولكن كلمات وزفرات تسكب على الورق. وكان يمكن محو بعض السطور التي قد تكون مغرقة في الشخصانية والخصوصية ولهذا لم يكن من الصواب إغفالها كلياً.
وبالمناسبة، فقد كنت أعلم بامتلاك المبدع مكتبة عامرة بأمات الكتب والمراجع النادرة وكم تمنيت لو أن من بقيت عندهم قدموها بعد رحيله لإحدى المؤسسات السورية التي تعني بالثقافة كما فعل ورثة العديد من الأدباء الراحلين ليرجع إليها ويستفاد منها كأرشيف مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، أو مكتبة مجمع اللغة العربية أو مركز الوثائق التاريخية.
هذا غيض من فيض وإن هو إلّا جهد المقل، فبحر هذا المبدع العميق بل ومحيطه الكبير يستوعب الكثير جداً من البحث والدراسة والتعمق في كل الميادين التي خاضها وعمل لها وأبدعها. وآمل عند نشر آثاره أن تكون حافزاً لدراسات عليا في نهجه وفلسفته في الحياة.
شاعر ومبدع وملهم وأتشرف بالانتساب إليه.
غسان يوسف مزاحم
تعقيب من د. محمد قيصرون ميرزا على بعض ما ورد في هذه الإضاءات:
كل الشكر والتقدير لابن العمة العزيز الأستاذ غسان يوسف مزاحم على هذه المراجعة الغنية بالملاحظات والتحليل الوافي لمحتويات الكتاب. وأود أن أوضح بعض النقاط التي وردت في المقالة عسى أن تفيد القارئ.
أولا: أشار الكاتب إلى أنه كان يأمل أن توضع القصائد بترتيب زمني، إلا أن هذا لم يكن ممكنا لعدم معرفة تواريخ كتابة العديد منها.
ثانياً: وجد الكاتب ما أسماه “تكلفاً وتكراراً وإطالة” في بعض القصائد التي وردت في كتاب الوجدانيات، وهذا أمر عائد للشاعر، رحمه الله، وما كان يدور في خاطره عندما كتبها، ولذا لم يحاول معدّو الكتاب استثناء أو حذف أي منها.
أخيراً: اعتبر كاتب المقالة أنه “اعتور الكتاب” نقص بعدم وضع مذكرات الأديب، إلا أنه لا يتوفر بحسب علم معدّي الكتاب “مذكرات أدبية” للشاعر، رحمه الله، غير المراسلات والمقالات التي وضعت في الكتاب.
ماذكرته الصحف وقت الحادث
– قصيدة في نعيه نُشرت في جريدة الحوادث
2 نيسان 1956 صباح اليوم الأربعين من وفاته…
بكل أسف لم نتوصَّل إلى اسم كاتبها..
– مجلة الرسالة ـ العدد 824 بتاريخ 18-4-1949 ـ تعقيبات ـالأستاذ أنور المعداوي حول “ديوان (كافر) للشاعر السوري زهير ميرزا” الرابط
– زكي مبارك: الرسالة 11: 944، 963 – 965 زهير ميرزا (1922-1956 م) الرابط
– مجلة الرسالة – العدد 819 – البريد الأدبي ـ نقد لقصيدة “شهرزاد” الرابط
– مجلة الثقافة لمدحة عكاش العدد 10 عام 1962
– مقال بقلم هند ميرزا بعنوان: النغم الضائع الرابط
مقال بقلم غسان يوسف مزاحم بعنوان: “الشاعر زهير ميرزا: المُبدع الذي رحل باكراً” الرابط
جريدة الثورة عام 2009
– مؤسسة هنداوي: الحديث عنه وعن ديوانه كافر الرابط
ما ذكر في معجم البابطين لشعراء العربية الرابط
– موسوعة التاريخ السوري المعاصر، أعلام وشخصيات الرابط – الرابط
– ديوان الغائبين ـ “شعراء تُوفُّوا في ريعان الشباب” الرابط
– عبدالقادر عياش: معجم المؤلفين السوريين – دار الفكر – دمشق 1985.
– مجلة القاهرة عدد 105 – 15-6-1990
– بقلم الاستاذ قطب عبد العزيز بسيوني: “إيليا أبو ماضي شاعر المهجر الأكبر” . الرابط
– مجلة الثقافة مدحة عكاش العدد 4 عام 2002
مقال بقلم: أحمد سعيد هواش بعنوان :
“من النجوم الغوارب : زهير ميرزا- الشاعر المحلِّق فيما وراء المجهول”. الرابط
– مجلة الثقافة مدحة عكاش العدد 6 عام 2006