تقديم ديوان كافر
ديوان كافر، وحي شيطان مريد :
مقدمة :
ديوان “كافر” هو الديوانُ الوحيد الذي أصدرَه الشاعر في حياته القصيرة. ويبدو أنَّ اختيارَه لهذا العنوان مقصودٌ؛ ليصلَ بالقارئ إلى الكفرِ بالشّرور.. والإيمانِ بالخيرِ المُطلَق؛ من خلال مشاهدَ حواريَّةٍ شعريَّةٍ لتساؤلاتٍ فلسفيّة حائرة، تُخاطب عقلَ القارئ وروحَه.
وقد اخترْنا مقتطفاً مِما نشرَه الأستاذُ “أنور المعداوي” عن ديوان “كافر”ـ في مجلةِ “الرِّسالة” العدد 824 بتاريخ 18-4-1949م ـ لِتكونَ مَدخلاً للمُقْبِل على قراءةِ الدّيوان؛ لِما فيه مِن جمعٍ بين التمهيدِ اللّطيف، والإيجازِ الوافي، بقلمِ أديبٍ ناقدٍ:
“أجملُ ما في هذه المجموعة الشّعرية أنَّ زهير ميرزا يصبُّ شعرَه في قالبٍ من الحوارِ الفنيّ الذي يدور حولَ فكرة، تنبعُ من أعماق الشّعور لتحلِّق على أجنحةِ الخيال . . . ولا أقول إنَّ الفكرةَ جديدة، ولكنَّ الجديد فيها هو تلك اللّقطات البارعة التي تُجيدُ اختيارَ الزاويةِ في مجالِ الإخراج الفنيّ للصورة النفسيّة، تلك التي يتّسعُ لها إطار التعبير ولا يزيد!”
فتعالوا نحلِّق مع الّديوان، نتذوق سِحْر أشعارِه العَذْبة!
كافِر
وَحيُ شَيْطَانٍ مَرِيْد
الإهْدَاء
إلى الجيل المتصاعد الذي نحنُ أمُّه وأبوه أضعُ هذه
اللَّبِنة المُتواضِعة في صَرْح فِكْرِه الحَيِّ الخالد:
يهزجُ ﺑ «هزيج الأبطال!»
ويهتفُ بهتاف الأجيال
ويَتعالى على ذُرى الأجبال
رائدُه الفكْرُ، ومَرْقاتُه الفِكْرُ، واتجاهُه:
نحوَ مَطْلعِ الشَّمْس!
زهير ميرزا
في 1948/8/6
الحَقيقةُ الكُبرى
حوارٌ شعريّ في منظرٍ واحد
(إلى «توفيق الحكيم»)
(شهرزاد مُكبَّة على الديوان العريض وداخلة في تأمُّلٍ بعيد)
(يدخلُ قمر)
قمر:
شهرزاد
شهرزاد:
مَنْ؟
قمر:
جئْتُ!
شهرزاد:
ليتَكَ ما جئْتَ
قمر:
لماذا؟
شهرزاد:
الطَّيفُ أحْلى ارْتيادا
قمر:
شهرزاد؟
شهرزاد:
هي الحقيقةُ يا حُبّي
قمر:
ولمْ جاءَتْ؟
شهرزاد:
لا تَسَلْني ازديـادا
إنَّ طيفَ الحبيبِ أجملُ منه ودُنى الوَهْمِ ما تُمَلُّ حصَادا
قمر:
فيمَ بُدِّلتِ؟
شهرزاد:
لم أُبـدَّلْ سوى قلبٍ يَملُّ الحياةَ “شيئاً” مُعادا
قمر:
أأنا “الشيءُ”؟
شهرزاد:
بل أردْتُكَ “شيئاً” خالداً
قمر:
كيفَ؟
شهرزاد:
أنْ تَشُطَّ ابْتِعادا
قمر:
لستُ أسْطيعُ!
شهرزاد:
فلْتَزُرْنيَ طيفاً
قمر:
وخفوقُ اللِّقاء؟
شهرزاد:
هَبْهُ حَصَلْ
قمر:
ودُنى الحُبِّ، والحــديثُ، وقوتُ اللَّحْــــــظِ، والمُسْكـــراتُ واﻟـْ …
كيفَ أحـظى بـكلِّ هذا خيَالاً؟ كيفَ يرضى ـ إمَّا رَضيتُ ـ الأمَلْ؟
نحنُ، أهلَ الغَرَامِ، يُدفئُنا الوَعْدُ، ففي وَهْمِــــه نُغــذِّي الأجَــــلْ
شهرزاد:
قُمْ تزوَّدْ
قمر:
وبَعدُ؟
شهرزاد:
أقْصِرْ
قمر:
هَبيْني لا أُطيقُ البِعادَ
شهرزاد:
اَلقلبُ مَلّْ!
قمر:
مَلَّ منِّي؟
شهرزاد:
لا، من حَقيقتِك الشَّوْهاء!!
قمر:
ماذا؟؟
شهرزاد:
لقد خَبَوْتَ حَبيبَا
كلُّنا عــاشَ في الحقيقـــةِ والوَهْمِ، فحَسْبي لقــد مَلَلتُ الرَّتيبا
إنْ تــكــنْ نــائيــاً أحبُّــــــكَ أضعافَ غَرَامي إنْ كنتَ منِّي قريبا
قمر:
شهرزاد!!
شهرزاد:
لنْ تُجْديَ الصَّرْخةُ الكُبْرى
قمر:
أأمْضِي؟
شهرزاد:
أجَــلْ
قمر:
وَدَاعاً
شهرزاد:
ودَاعا
(وضعت بالسويداء عام 1944)
بينَ جُنديين
حوارٌ في منظرٍ واحد
إلى
(الجنديّ السوريّ)
(في الخطوط الأمامية – الخندق)
الأول:
يا أخي!
الثاني:
مَنْ؟
الأول:
مُحاربٌ!
الثاني:
بُورِكَ اسْمٌ ما الذي تبتَغي؟
الأول:
لقد ضِقْتُ صَدْرَا!
الثاني:
ضِقْتَ صَدراً؟ بأيِّ شيءٍ؟
الأول:
بهذا الجوِّ! بالبارودِ اللَّعينِ
الثاني: (آمِراً)
أسِرَّا
الأول:
لستُ أقوى؛ فقد تبدَّتْ لعَيني مِيتَتِي!
الثاني:
بئْسَ ما تقــولُ وتَجْـــرَا
اخْفِضِ الصَّوتَ!
الأول:
لن أُكبِّلَ وجداني!
الثاني:
أتَقوى على الخيانةِ جَهْرَا؟
الأول:
إِيْ!
الثاني:
اقتربْ منِّي أَستمِعْ لكَ رأياً
الأول:
أيَّ رأيٍ تَودُّ؟ قدْ نُؤْتُ صَبْرا
كلَّ يومٍ ليَ اندفاعٌ إلى الموتِ، أُلاقي في حَلْبَتيهِ الأمرَّا
أنا إمَّا سَلِمْتُ يَومي، فما أملِكُ مِن بَعدِه السَّلامةَ شَهرا …
الثاني:
يا أخي!
الأول:
مَنْ؟
الثاني:
ضَميرُكَ الحرُّ!
الأول:
قد مات!
الثاني:
أخوكَ الجنديُّ؟
الأول:
أُودِعَ قَبْرَا
الثاني:
أمُّكَ الأرضُ!
الأول:
كفَّنَتْ أمسِ إخواني!
الثاني:
أبوكَ الإخلاصُ!
الأول:
مِنِّيَ يَبْـــرا
الثاني:
وطنٌ يَرتَجيك!
الأول:
إن متُّ، فالأرْماسُ أَوطاني!
الثاني:
لم تمُتْ!!
الأول:
أنــــتَ أدرَى
أنــــــــا، إمّـــــا بقيــتُ، ســــوفَ ألقى مِـيـتــةً هولُها يُحـــدَّثُ ذِكْــــــرا
مِيتـــةً ليسَ يَدفعُ اليــومَ عـنـهـا طــــولُ بـــــاعٍ ولا مَكانةُ كِسْـــرى
كلُّها الغَدْرُ… ما يَمينُكَ بالسَّيفِ تُـــداري الموتَ المُعاطيكَ غَدْرا!!
رُبَّ طَلْقٍ أُريدَ منه دَعابٌ أحـــدثَ اليــــــــومَ في الجـوانـحِ جُــحْــــــرا
أو هواءٍ قد سمَّمـــوهُ فراحَ الجِبْسُ بالنَّدْسِ والصَّناديـــدِ خُسْــــرا
أو فَتيلٍ قد أشعلوهُ فدكَّ الأرضَ دكّاً، وأمطرَ النـــــاسَ جَمْــــــرا
فـتـهـاوَوا كـأنَّـهـم ورقُ الأشـجـارِ … مـرَّت بـها الأعـاصيـــــرُ تَترى
وإذا هم مِن بعدِ ذا مُستحــاثاتٌ! … وعــــادَ الوجودُ يَطفحُ بِشْرا
ضلَّ عهدُ البارودِ والغازِ! … فالناسُ تساوَوا مِن بعد ذَينِكَ قَدْرا
الثاني:
يا أخي!
الأول:
مَنْ؟
الثاني:
مُحاربٌ!
الأول:
نُوهِضَ اسْمٌ!
الثاني:
استمعْ لي عسَى أُحيطُكَ خُبْرا
ما جمالُ الحياة؟
الأول:
نَهلةُ كأسٍ لمْ تَشُبْها الأكدارُ
الثاني:
قدْ شئتَ أمْرَا
أجميلٌ من الوجودِ صباحٌ لم يلدْ ليلُه، مع الكُرْهِ، فَجْرَا؟
الأول:
لا!
الثاني:
جميلٌ من الوجودِ رياضٌ لم يَلدْها الشتــاءُ رَعْداً وقَطْرا؟
الأول:
لا!
الثاني:
جميلٌ من الوجودِ صَفاءٌ لم يُطعَّمْ شَجىً ولم يَنْزُ ذِكْرَى؟
الأول:
لا!
الثاني:
أَتسْطيعُ أنْ تنالَ وروداً دونَ شَوكٍ يُجرِّحُ الكفَّ قَسْرا؟
الأول:
لا!
الثاني:
أخي! اُدنُ لا تخفْ وأجبْني أفِراراً تنجو مِن الموتِ؟
الأول: (يُطرِقُ مُتفكِّراً)
صَبْرا!
الثاني:
يا أخي، اُدنُ لا تخَفْ وأجبْني إنْ طلبْنا الفرارَ، نَخلُد دَهْرا؟
الأول:
لا، ولكــــنْ نُؤجِّلُ المــــوتَ!
الثاني:
قُلْ لي: أحياةُ الإذلالِ تُحسَبُ عُمْرا؟
الأول:
لمْ أقُلْ ذا!
الثاني:
إذنْ أجبْني: أترْضَى بحياةٍ نُباعُ فيها ونُشرَى؟
الأول:
خَسِئَ العُمرُ أنْ أُباعَ .. فغيري يَرتَضي ذاكَ … وهو بالعَبْدِ أَحْرَى!!!
الثاني:
أيُّ فَرْقٍ بينَ العبيدِ وبينا إنْ طلبْنـــا الفــــرارَ ممَّنْ تَجرَّا؟
الأول:
إنْ رغبْنا الفرارَ؟.. مَنْ قالَ هذا؟!
الثاني:
أنتَ قد قُلتَهُ!
الأول:
لقد قُلــتُ إمْـرَا
لا تدعْني أنـــام إلاّ وقد أفرغْــــتُ حِقـــدي نيـــــرانَ تَطلُبُ صَدْرا …
فلنا اليـــــومَ عــــزَّةٌ دونَها الشَّمسُ!!!. وإلّا: فاحفرْ لنـا الآنَ قَبْــرا !
لِقاء
ي مَنظرٍ واحد
(إلى عَذارى بابل)
(بين فتىً وفتاةٍ في طريقٍ منفردة)
هو:
أيها الحُسْنُ!
هي: (نافرةً)
إِنْأَ، لا تَقترِبْ منِّي
هو:
لِماذا؟
هي:
أخافُ منــكَ عليَّا
هو:
لا تخافي، فكُلِّيَ الحُبُّ والتَّحْنانُ
هي:
لا! لا. أرجوكَ دَعْني وهيَّ
إنَّ قلبي كصَفحةِ المـــاءِ … إنْ مرَّ عليها النَّسيــمُ خلَّفَ شيَّــــا
لا تُعذِّبْني…
هو:
بلْ سأُسعدُكِ اليومَ!
هي:
يقيناً لا.
هو:
أتخشَيْنَ قلباً فتيَّـــا
جــاءَ يسعَى إليكِ ، يدفعُـــه الشَّوقُ، وحُـــبٌّ هَدْهدْتُه بيديَّــــا؟
هي: (نافرةً)
ما الذي قُلْتَ؟.. إِنْأَ، لا تقتربْ منِّي. أخافُ الهوَى على مُقلتيَّا
وحــــرامٌ عـلـيــــــك تُــذبِلُ جَفنَيَّ سُـهـادًا، فما أتيــــــتُ فَرِيَّـــــا
هو:
أهوَ الحبُّ يُذبِلُ الجَفْنَ؟
هي:
ارحَمْني!
هو:
حَنانَيـــكِ! لا تُذيبي شَقيَّـــا
تيَّمتْني عَيناكِ
هي:
رِفْقاً بقَلبي!
هو:
لو ملَكتِ الإشفاقَ مِلتِ إليَّا
هي: (متوسِّلةً)
لا تُـعـذِّب صـبـيَّـةً، وردةَ الـيـومِ، ومِـلْ بـالـشِّـراعِ عـنْ شـاطئيَّا
إنْ تكنْ عاشِقي، فدُونَك دُنيا الفِكْرِ، فاعشَقْ بها خيالي سِنيَّا
هو :
وغرامُ العيون؟
هي: (ترسلُ إليه ببصَرِها)
أسْقيكَ منها الآن ما تَبْغي ..
هو: (مُستغرِقاً في نعيمِ ناظرَيْها)
أيُّها الحُسْنُ!
هي:
هيَّا
هو: (مأخوذاً)
ما السُّلافُ المُعتَّقُ الآن؟ ما السِّحْرُ المُغذِّي ينسَابُ في ناظريَّـا
ما الحياةُ التي أحسُّ؟.. وما هذا الذي يَسْري في عُروقي؟ أَفِقْ يا
هي:
قد أفاقَ الذي دَعَوْتَ!
هو: (مضطرباً)
أحقَّاً؟
هي: (دامعةَ العينين)
ليتَ لي أنْ أقولَ ما ليسَ فيَّــا
هو:
أنتِ أنْقَى مِن الشُّعاع!
هي:
ولكنْ أنتَ لوَّثْتَني!
هو:
أبالحُبِّ؟
هي: (لا تُجي)
ب ……
هو: (راكعاً)
لميــــا!
هي:
كـنـتُ في جَـنَّـتي.. فـصـوَّحتَ رَوْضي.. وأمَلْتَ الغُصونَ شيئاً فشَيَّا
ودفعْتَ الشَّقـــــــاءَ بالكأسِ حتى ذابَ في مِذْوَقي فأضْحى شهيَّا
ما الذي فيه؟
هو:
كلُّ لَذٍّ وإنْ كانَ مَريراً
هي:
رَضيْتُه عَبْقريَّـــا
لم تَعُدْ وحْدكَ الذي يَتلوَّى!
هو:
رحمةً بي!
هي:
اذهبْ وعُدْ لي نبيَّا!
(دمشق 1946)
كافر
وَحيُ شَيْطَانٍ مَرِيْد
فصلٌ في منظرين اثنين
(أقولُها لكم؟..!
لن تؤمنوا حتى تَكفُروا، ولن تكفُروا حتى تُؤمنوا
تلك هي تعاليمُ الفِكْر الواحدة في الأرضِ الخالدة)
حديثٌ في الملأ الأدنى! فلا تسترسلوا
بدئ بوضعِه عام 1943 ولمَّا ينتهِ عام 1948
تمهيد
خطوتُ على جـَــــدَثٍ مُنتِنِ وأوغلتُ في الزَّمنِ الأرْعَنِ
وفي خاطري هَمَساتٌ عسى تُشدِّد من عــــزميَ المُنثني
شبابٌ، ومَنْ كالشَّبابِ إذا اعــــــتراهُ الشعورُ المُفيضُ الغَني؟
يُدافع بالمَنكِبِ الغـــــادِراتِ ويُترِعُ كأسَ الهَوى بالأَمـلْ
ويضحكُ ثغرٌ، وقلبٌ، وخا طرٌ، والنُّهى، ضحكةً للغزلْ
يُريدُ الحيـــاةَ كما يشتــــهي: جنــــوناً وطــــيشاً بلا ثَمنِ
وفي الكونِ هذا، ولكن تُرى مفاتيحُه بيـــنَ أيـْـدي مَــنِ؟!
••
ركبتُ مع الرِّيحِ أسعى إلى السَّــــماءِ وفـــي خـــافِقي لهَـــفُ
وجزْتُ حزونَ الموانعِ مـــا يُعــارضُني خاطِرٌ مُرهَفُ
وأيقنتُ أنـّـي سأَحظى بمـــا أُريدُ، وفي همَّـــتي مُسعفُ!
وحلَّقتُ حتَّى تركتُ الــــذي بنفسيَ من خاطـــرٍ يـــائسِ
وصفَّقتُ بالجانِحَيـــنِ إلـــى رياضٍ من الأمـــلِ النَّاعِسِ
فلما قَرُبتُ، تلاشى الهـــواءُ وغامَ الفضاءُ فمـــا أُممعـرَفُ
وأهويتُ نحو ثرايَ وبـــــي بقيــــَّـةُ أهـــواءَ تُسْتَنـــزَفُ!
تقاربتُ، بالفِكْرِ، مِنْ خـالقي وأوسعتُ خَطوي فما أَرجِعُ
يُشجِّعُني أمـــــــلٌ بـــــــاسمٌ وتشــملني قــــوةٌ تدفـَــــــعُ
شبــــابٌ وفِكْرٌ وعزْمٌ ومـــا يُريـــدُ الخلودُ: هوىً يرفَـعُ
إذا بي يُحطِّمُني مَن له اقـْــــــــتدارٌ ليَـــــــرفعَني عـــــاليــــا
ويسعى ليَبني على جَــــدَثي وما كــــانَ إلاّ فتىً غاليــــا
يُلازمُنـــي الحسُّ يــَــدفعُني فأرضى، ويغضبُ إذ أقنَــعُ
وما كانَ إلا نَعيمي ومقْـــــــــــــبرتي … ثًمَّ لي فيه ما يَشفعُ
••
أنِفْتُ من السَّعي في مَركبي وعُدَّتُه مُتلَفاتُ الشِّـــــــراعْ
وهذا الوجودُ على رَحْبِــــه تَضايَقَ حتَّى غدا طولَ باعْ
فَطِرْتُ على جانِحَيْ فكـــرةٍ أُيَمِّم ما لم أَزُرْ مِن بِقـــــاعْ
فلما بَعُدتُ، بَكى خافِقــــــي فعذَّبْتُهُ بالصُّـــــدودِ الأَصـمّْ
فثـــــارَ لنكبتِهِ خاطــــــري فغذَّيتُــــه بالأَســى والألـــمْ
إذا بي أُبــَـرَّأُ مِـن واقعــــي يُطهِّـــرني في رُؤاه اليَراعْ
وعادَ الوجودُ على ضيقِــــهِ كبيراً يُمدَّدُ لي في اتِّســـاعْ!
المشهد الأول
المحكمة العليا:
(في قمة جبلٍ صخريٍّ، في إحدى مغاراته الرهيبة، يجلس في صدر المغارة المُوحِشة شيخٌ جليل، وعن يمينه ملاكٌ وعن يَساره مارد، وأمامه يَقتعد الأرض إنسيّ، وعلى مَبعدة تتصاعَد ألسنة اللهيب)
الشيخ:
رَوِّعوهُ، إنْ استطَعتمْ، فقد عاثَ فساداً، وأمطرَ الأرضَ كُفْرا
وأتى بالعجيبِ، حتى أثارَ الذُّعرَ في الأرضِ، واستبدَّ مُصِرَّا
ما تقولون؟!..
الملاك، المارد، الإنسيّ:
بِئسَ!
الشيخ:
بُورِكَ فيكم! سوف نأتي به ليشرحَ أمرا
*****
لمْ يكنْ من حقوقِنا حَمْــلُ همِّ الأرضِ! لَكِنْ: لكلِّ أَمـــرٍ قرارُ
سَكِــرَ الأمسَ، واستبدَّ بها اليومَ وروَّى الأحداثَ ما يَختـــارُ
ولو أنْ يَكتفي اكتفينا. ولكنْ شطَّ في الغيِّ فالسُّكوتُ صَغارُ!
*****
نحن قُمنا في الأرضِ، أسيادَها الكُفْءَ، فما إنْ نقولُ بالطُّغيانِ
وعلِمْنا عن الحيـــــاةِ كثيراً وسَهوْنا عن طِينـــــةِ الإنســــانِ
جُبلَتْ مِن ميـــــاهِ مُستنقَعٍ رجْـسٍ، وصِلْصالُها رُفاتُ الهَوَانِ
*****
إنَّما «هُو» حقيقةُ الإنْسِ جمعاءَ، و”هيَ” فتنةُ الوجودِ اللَّعينِ
قد سُقي من رحيقِها.. وسَقاها مِن رحيقٍ عَصيرُه مِن طيــــنِ
وتبنَّى – كما تبنَّت – شحوبَ الرأيّ في أرذلِ الوجوهِ المَهينِ!
*****
أَحضِـــرُوه مُكبَّلاً بقيــــودِ الوهمِ والخِزيِ والأسى والآثــــامِ
الملاك:
واطرَحُـــــوهُ أمامَ مَحْكَمةِ العــــدْلِ ليَلقى جزاءَ ذاكَ الكـــلامِ
ودعوه يقول …
الشيخ:
لا لا..! فما كانَ له أن يقـــولَ غيرَ مرامي!
أحضِروهُ!
الإنسيّ:
ليُؤتَ بالفَنَنِ الذَّاوي! فقد طالَ في الغياهبِ لُبثُــهْ
هو في غيهبَينِ: نفْسٍ وسجنٍ وهو في النَّاس كافرٌ ضلَّ بَحثُهْ
وهو منه ضحيَّةُ القلقِ الجبَّار ….
الشيخ:
لا لا!.. فقد أضـــلَّكَ خُبْثُـــهْ!
المشهد الثاني
(«هو» يأتي مكبَّلاً بالسَّلاسل وعلى وجههِ مَخايلُ كُفره!)
الشيخ:
أنتَ «هو»؟.
هو:
؟..
الشيخ:
قُلْ!
هو:
أجل!
الشيخ:
وأمُّكَ «تلك»؟
هو:
؟….
الشيخ:
قُلْ!
هو:
أجل!
الشيخ: (متذمِّراً)
ما أرى لكَ اليومَ ناصِرْ!
وأبوكَ المسكينُ «ذاك»؟
هو:
؟…
الشيخ:
أجِبْ!
هو:
لا!
الشيخ:
كيفَ؟
هو:
لا! لم يكنْ أبي صِنْوَ حافرْ!.
الشيخ:
لا تَفُهْ مُقذِعاً من القولِ!
هو:
لكنْ…
الشيخ: (ملوِّحاً بقبضته)
ليس في عُرفِنا لواكنُ[1] كافِر!
مَن تُراهُ أبوك.
هو:
«ذاك»
الشيخ: (ملتفتاً يمنةً ويَسرة)
وأنتم وزِّعوا عنه قيدَه والشَّنارا
(يُوزَّع عنه قيدُه- وينتقل اللَّهبُ إلى وسط المغارةِ أمامَ الشَّيخِ الجليل……)
الشيخ: (ﻟ هو)
اقتربْ!
هو: (يقترب)
الشيخ:
أيضاً.
هو: (يلبثُ في مكانه)
الشيخ:
ما لكَ اليومَ تخشى النَّارَ؟
هو:
حَسْبي! فما أطيق النَّارا
الشيخ:
كيف طِقْتَ الوجودَ تُصهَرُ فيه كافراً … ثُمَّ خِفْتَ الشَّرارا؟!
هو:
كان لي في الحياةِ كُفري مُعيناً.. ثم أضحى المُعينَ شيطانُ شاعِرْ
الشيخ:
كيفَ؟
هو:
لا أدرِ!
الشيخ:
بلْ أجِبْ!
هو:
لستُ أَسْطيعُ!
الشيخ:
جبانٌ!
هو:
بل غيرُ هذا!
الشيخ:
مُكابرْ!
وستَدري أنَّ المصيرَ سيلقاكَ عنيداً.
هو: (مُتهكِّماً)
وبعدَها؟
الشيخ:
ستُجاهِرْ!
هو: (بحزمٍ)
علَّمتني عقيــــدتي أنَّ مَنْ يقضي بدنيــــا آرائِـــــــه فشهيدُ!
الشيخ:
ثُمَّ ..
هو:
صَمتٌ!
الشيخ:
وبَعدُ؟
هو:
صَمْتٌ!
الشيخ:
ومِنْ بَعدِهما؟
هو:
صمتٌ!
الشيخ:
أنتَ غرٌّ عنيدُ
نحنُ في كفِّنا كتابُ مَواضيك
هو:
اطرحوها
الشيخ:
بل قُل لنا ما نريدُ
هو:
عبثاً تَطلُبونَ منّي اعترافاً أنا أَودعْتُه مِن الصَّدرِ قَبرا
تَستطيعونَ كلَّ شيءٍ سوى الإكراهِ!
الشيخ:
بل نَستطيعُه الآنَ قَسْرا
هو:
حاوِلوه!
الشيخ:
خسِئْتَ مِن كافِرٍ غرٍّ
هو: (بعنادٍ)
سوايَ الْـ ..
الشيخ:
بلْ أنتَ أوضَعُ قَدْرا
هو:
فيمَ تُؤذونَني؟ ألمْ أكُ حُرًّا؟
الشيخ:
كنتَ حُرَّاً مُقيَّداً!
هو:
لستُ أفهَمْ!
الشيخ:
غيرُ مُجدٍ إفهامُكَ الآن!
هو:
تضليلٌ!
الشيخ:
صَهٍ!!
هو:
لا!
الشيخ:
ستَصمُتُ الآنَ مُرْغَمْ
هو:
عجباً! تطلبونَ منّي اعترافاً فــــإذا فُهْتُ قيــــلَ: لا تتكلَّمْ
ليَ حقٌّ وليسَ لي أيُّ حقٍّ! منطقُ الأرض ثَمَّ أقوى وأدعمْ
الشيخ:
لستَ في الأرض!
هو: (صارخاً)
أين؟..
الشيخ:
في الملأ الأدنى!!
هو:
أأجثو؟..
الشيخ:
مُخَيَّرٌ!
هو:
بل مُحطَّمْ!
الشيخ:
فليَكُنْ!
هو:
كيف؟
الشيخ:
أنتَ حُرٌّ!
هو:
أُراني نُؤتُ فِكْراً بين التناقُضِ مُبهَمْ
أنا حُرٌّ ولستُ حُرّاً .. فكيف الجمْعُ ..: ضِدَّان ضمنَ كِفَّةِ حابِلْ؟
أرهقتْني حقائقٌ في وجودي وأضلَّ التفكيرَ ميزانُ عاقِلْ
كلَّما شئتُ أنْ أخطَّ كتابي قيلَ: لا تجترئْ فقد قالَ قائلْ!
••
عذِّبوني، إنْ استطعتمْ، بجسمي فوجودي قد كان أدهى عــــذابِ
منَحوا عقلاً قالَ لي: أنتَ مشدودٌ إلى “اللَّوحِ” و”الدُّنى” و”التُّرابِ”
لا تَكن كافراً تَخِبْ! ودع الإيمــــانَ تسليماً تَنجُ ! يا لاضطرابــــي!..
كيف خُيِّرتُ؟ كيفَ أُجبِرْتُ؟ لا أدري!
الشيخ:
ستدري مِنْ بَعدُ
هو:
قد ضِقْتُ صبْرا
كلُّ شيءٍ مُعلَّقٌ بانتظارِ الـ”بَعْدُ”.. والـ “بَعْدُ” مُغلــقٌ ليس يُــــدرى
والذي أغلقَ الوجودَ عليه شــــاءَ أمـراً، ونفَّذَ اليـــــوم أمرا
ولنا — لا لغَيرنا — حقُّ تَسطيرِ مَصيــــرٍ، سؤالُنا عنـــــه حَشْرا
كيف يَجني امرؤٌ ويُسأَلُ عنه غيرُهُ؟..
الشيخ:
أنــتَ لم تُحِطْ بـــه خُبْرا
لستَ تَجني إلا أثاماً وتُرغِي قد ضللتَ الصَّوابَ عقلاً وفِكْــرا
الملاك:
فلنُؤدِّبْهُ
المارد:
فلنُعَذِّبْهُ
الشيخ:
لا لا! ســوف أُشقيهِ بالخَيالِ المُجنَّحْ
الإنسيّ:
شقـــوةُ النَّـــــاسِ بالحيـــاة، وآمالهمو بلسمٌ لجُرحٍ تقيَّحْ
لا تُعذِّبْهُ بالخيالِ وأنتَ العَدْلُ!
الملاك:
بـــلْ زِدْهُ بالحنيــنِ المُبرَّحْ
صِلْهُ طَوراً، واهجرْه طَوراً، ولقِّنْهُ التَّسامي، ودعْهُ في الوَحلِ يَضبَحْ
المارد:
واحْبُهُ المالَ لا يُقيم له أَوداً … وجرِّدْهُ مِنْ يَقينٍ مُوضَّحْ
ثُمَّ واجعلْ أليفَه شرَّ مَنْ فَهِمَ الإلفة … وامنـعْ دموعَه أنْ تُسفَحْ
ثُمَّ …
الإنسيّ: (صارخاً)
يَكفي!
الملاك:
لا!
الإنسيّ:
بلْ كفَى!
الشيخ:
أنتَ منهُ!!
الإنسيّ:
إنَّ هذا ما لا تَطيقُ الجبالُ
عذِّبوهُ بجِسمهِ، إنْ أردتُم؛
الشيخ:
إنَّ أقصَى الجَزاءِ فيهِ الخيالُ
ما تقولونَ؟..
الأكثريَّة:
نِعمَ!
الشيخ:
بُوركَ فيكم..
(مُشيراً إلى «هو»)
عُدْ إلى الأرضِ! دارُكَ الأَوحالُ!
هو:
حُكمكُم حكـــــمُ مَن تحكَّــــم قبلاً أنتمُ عصبـــــةٌ وإنّي وحيــــدُ
عذِّبـــــوني وأرْهِقـــوني خَيــَـالاً وارجُموني كما يشاءُ المُريـدُ
ودَعوني حتّى أغـــوصَ لفرعي في وحولِ الحياةِ ..لستُ أَحيدُ
أطْعِموني عُصارةَ القَذَرِ المُــــرِّ … وهاتوا ما تَرْتَضيــهِ العَبيــــدُ
وادفعُوا الرِّجْسَ في دَمي يتمشَّى ودَعوا الإثمَ في عُروقي يَزيدُ
واملؤوا لـــي فمي تُرابـــــاً؛ فقد ماتَ، كلامٌ لمْ يَستسِغْهُ الوجودُ
وانبذوني ـ كما نبذتُكُمُ الأمسَ ـ .. وقولوا: هذا شَريـــدٌ طَريـــدُ
واكفُروا بي، كما كفرتُ بغيري؛ إنَّ شيطانَنا وحيــدٌ مَريــــــدُ!!
خـَــالقُ «الشَّيءِ» مُؤمِنٌ بقُـــواهُ فإذا عقَّــــهُ، أتــاهُ الجُحـــودُ
لا تَلـــومـــوهُ إن تلوَّى شُكـــوكاً فلقــد ســَـاقَهُ إليــــه القيـــودُ
الغواياتُ في دَمــــــي تَتنـــــزَّى والشَّراييــنُ فجَّرَتْها السُّـدودُ
والمَفاهيــــمُ عطَّلتْــــــها التقـاليــــــــــــــــدُ وأَودَى بطُهـْـرِهنَّ السُّجـودُ
السُّجودُ المَريرُ للأرضِ والنَّفـْــــــــــــــــسِ! وبعضُ السُّجودِ ذلٌّ عنيــدُ
والبــَـراءاتُ وسَّــخَتْها القَوافـــي والدَّناءات شجَّعَتْها الحُــدودُ
والقوانيــــنُ تَدعَمُ الشَّـــرَّ للشَّــرِّ! وضَـلٌّ ما نَدَّ عنهُ وَليـــــدُ!!!
عطَّلوا الأرضَ من عُصارةِ طُهْرٍ فإذا مُمـرعُ الرِّياضِ حَصيـدُ
وإذا الأرضُ منبتُ الشَّــرِّ لا يَقْـــــــــــــوى على فَصْدِ شــرِّها مَفصـودُ
كلَّمــــا أنبَتَ السُّمـوُّ نبــــاتـــــــاً أيبَسُــوهُ! فلنْ يكونَ جديــــدُ!
كلُّ حُرٍّ بينَ العبيـــدِ رقيـــــــــقٌ أفنــرجو أن يُسْتَرَقَّ العبيــدُ؟
اصنعوا ما بدا لكم وادعَمُــــــوهُ نطــقَ الظلمُ فيكمُ ما يُريــــدُ
علَّمتْنــــي عقيدتــــي: أنَّ مَن يقـْـــــــــــــضي بدُنيــا آرائـــهِ فشهيـــــدُ!
(يُساق)
*****
[1] لواكن جمع لكن
غانيةٌ وفِكْر
حوارٌ في منظرَين
(من الكفرِ الأوَّل)
عذاب …
«لا تَرغبي في هوى الجسَدْ فالشهوةُ اليومَ تُضطَهدْ
وطَـهِّـري جِـسْـمَـك الـذي دنَّــســـــَـهُ حُـــبٌّ مُفتَقَــــــدْ
لا تـتـلـــوِّي عـــلى الـوســـــائـدِ التي تُـنـهـِـــكُ الجَـسـَـــدْ
حَـسْـبُـكِ تــذويـبُ هـــذه القـِـــوى عـلى مَذبـــَــحٍ نكَـــدْ
تَعتصرينَ الــرِّغـاب قـسْــــراً بــاشـــتـعــــــالٍ لــتـبْـتــَــردْ
مــــا لـكِ منفوشةَ الشّعــــورِ في جنــونٍ وفي جهــدْ
لاهـثـــةً كـالتي غَـــــدَتْ رهــيـنـــةَ سَـــوْطِ مُـضطهِـــدْ
بــرَّاقــــةَ العَيــــنِ كـالـتي تَـعُــــوزُهـا وثْـبــــَـةُ الأسـَــــــدْ
مَفغُــورةَ الـثَّغرِ شـهـــوةً تـحـــوطُـه مَــوجَــــةُ الزَّبـَــــدْ
أتـعـبَــكِ الجـسْــمُ يـا فتــــاتي وسَـيـرْميـــكِ بــالـكَمَــــــدْ
إنَّ صَــريـعَ الــرِّغــــابِ كــالـمـجـنــــونِ يَـحـيـــَـا بــلا قـَـوَدْ
تَـقــــــــودُه شـهــــوةٌ سـتـحــــرقُ الحيــــاةَ التي يَوَدّْ !!!»
23/6/1943
المنظر الأول
(قاعةٌ أنيقة – يقومُ على جَنباتها أثاثٌ نفيس – صورُ راقصاتٍ وأشباحٍ عارية – لوحاتٌ جنسيَّةٌ مختلفةٌ ورائعة – في منتصفِ القاعةِ آنيةٌ يتصاعدُ منها خيطٌ من بخورٍ معطَّر – أزهارٌ في أوانٍ – ثريَّاتٌ كهربائيّة نفيسة – أضواءٌ ناعمةٌ مترفة)
هو:
كيفَ؟
(يقلِّبُ نظرَه في ساعةٍ ذهبيَّةٍ في مِعْصَمِه)
لمْ تأتِ
(يدوُر قليلاً ويتضمَّخُ بالعطْرِ الفوَّاح)
وَيْحَها تُخلِفُ الميعاد؟
(مؤكِّداً)
لا! إنَّ طبعَهنَّ الوفــــاء
هنَّ ظِلُّ الرِّجالِ، ما عزَّ منهـم جانبٌ، كيـف لو تناهى الإبــــاء؟
حَسْبُهنَّ الألفـــاظُ تتــرى عـلى ثغـرٍ أنيـــــقٍ ليُستحَلَّ المنيـــــعُ
لفظةٌ .. أو رشاقةٌ .. أو رياءٌ .. أو وعودٌ .. أو قُبلةٌ .. أو دُموعُ
فإذا حِصنُهنَّ يَنهـــارُ أطـلالاً … ويَـخـفْــنَ كـبـريـــــــاءً تَميــــــعُ
ذلك الجنسُ في وضاعَةِ مبنــــاه تساوى لديـــهِ: رغـَـدٌ وجــوعُ
غير أنّي … (يدوّي الجرسُ الكهربائيّ)
أتتْ!
المنظر الثاني
(تدخل “هي”)
هو:
إذنْ قد تأخّرْتِ.
هي:
كثيراً؟
هو:
وَددتُ لو جئـــْـتِ قَبـْــلا
كنتُ غيَّرتُ فكرتي..
هي: (وفي فمها لفافةُ تبغ)
هاتِ لي جَذْوَةَ نارٍ، وقـُــلْ ليَ الآنَ: أهلا
هو:
لَمْ أكنْ مالِكاً قِوى الفكْرِ … فالقلبُ …
هي:
على عادةِ الرِّجالِ المُثلى
أنتمو دائماً بقايا اضْطرابِ الجنْسِ … حينـــاً تَسهُــــونْ، حينـــاً كـلَّاْ
هو:
ما الذي فيكِ؟
هي:
فكرةٌ!
هو:
أتُرى أسْـطيعُ تبديلَها؟
هي:
خشيتُ بأنْ: لا
هو:
أنتِ لُغزٌ بـَــدا، ويُوشِـــكُ أن ينــحلَّ في كأسِ خَمْــــرةٍ أو شهـــوَهْ
ويقينــي أنَّ النسَــاءَ بقايــا قطَــــرَاتٍ من غُلمـــةٍ لـــــيسَ جَـــذوهْ
ما تقولينَ في كُؤَيسٍ من الخَمْـرة؟..
هي:
لا بـأس. غيرَ خمْرٍ ضعيفهْ
نحنُ نأبى العِجافَ حتّى مِن الخمرةِ … أمَّا أنتم …
هو:
فَنَفْسٌ عنيفــــهْ
تَقبـــــلُ الطـَّــازَجَ الشهيَّ وترضَى ببقايــــا إنســــانةٍ كالجيــــفهْ
حُـــوَّمٌ نحنُ حولَ مُنْتِنِ جسْمٍ، كالنُّســــورِ المحلِّقـــاتِ المُخيـــفهْ
إنَّـمـا نـطـلـبُ الغِــــذاءَ … ولـــو كــانَ بمستنقعٍ بَدتْ محفوفَــهْ!
(ينهض ويُحضِر آنية مع كُؤَيسَين)
هي:
فلسفاتٌ تضيعُ في حَلْبةِ المعقولِ
هو:
هذا شرعي!
هي:
شريعةُ غُلْمَــهْ
لحظـــةٌ، بعدَهــا ترفُّعُ مغرورٍ..، ومن ثَمَّ كبوةٌ..، ثُمَّ نقمَهْ
ما نراكم إلّا فُتــاتَ رجـــالٍ تتهاوَوْن من أعــــالي القمَّــهْ
وغداً …
هو:
ما غَدٌ؟
هي:
رجوعٌ إلى الماضِي!
هو:
أَتَفنى لذَّاتُنا؟
هي: (بتهكُّمٍ خفيف)
لا! ستَحيا.
هو:
وَا يقيني! قـد خِفتُ أنْ تتلاشى. جُبِلـَـتْ في دمي طبيعــةُ جنسي
غَـرْفةٌ … ثـمَّ بـعدَها فليخُبَّ العُمْرُ … إنَّ الحياةَ رَعْشــــةُ لمْسِ
في دمي قد جـرى التناقضُ: من نفسٍ كبركانٍ والشّعور بنفسي
قلقٌ قامَ …
هي:
لا تخفْ!
هو: (بقلقٍ)
كيفَ؟
هي:
هاتِ الكأْسَ
هو:
مِن ثَمَّ؟
هي: (مُجتذبة الكأس إلى ثغرها)
غَيْبةٌ عنْ وجودِ
هو: (خائفاً وجلاً)
بَعدُ؟..
هي: (بإغراء)
دُنياً من المَلاحَةِ والإرْضاءِ …
هو: (بذُعرٍ شديد)
لا .. لا ..
هي: (بتخاذلٍ)
اشربْ!
هو: (نافراً)
خداعٌ فحيدي
هي:
لِمَ تخشى النِّساءَ؟..
هو:
لا، لستُ أخشاهنَّ؛ بل أخشى من يذرُّ وجودي
أنا أبغي جسْماً تـوقَّـدَ بالنَّـــارِ … ولكــــنْ لا يَحرِقنَّ رِغــــــابي
جَسَــــدُ المرأةِ اللَّعيـــــنُ خطايــــا تشتوينا ولا نَنِي باقتــــــرابِ
شمعــــةُ النُّورِ تَخـــلِبُ الغرَّ مِن كـــلِّ فَراشٍ فيرتضي باللُّهابِ!
يتدانَى مِن مَنْبعِ النَّارِ والنُّورِ فيُمسي ـ لبرهـــةٍ – في التهــــابِ!
هي: (بإغراءٍ وتخاذُل)
لا تَخَفْ، اقْتَربْ، تعالَ اعتَصِرْ، لا تَحترِقْ مثلي، أنتَ كأسُ الشَّبابِ
هو:
أنا أبغيكِ … غير أنّي أخافُ الاحتراق الرَّهيب ..
هي:
لا تخشَ ما بي
جـسـدٌ نابـضٌ تطلَّــبَ رعَشـاتٍ لينسابَ في هـــدوءِ العـَذابِ
هاتِ كأساً وثمَّ أخرى … فما العُمْرُ سوى لذَّةٍ وكأسِ شَرَابِ!
هو:
وأنا؟..
هي:
أنت؟.. ذَوبُ شِعْرٍ وفَنٍّ ..عبقريٌّ يَميدُ في الأوصابِ
هو:
شئتُ لو لمْ أكنْ صَنيعةَ شَهَواتي!..
هي:
سُدىً تَرْتَجي!
هو:
فيَــا لَـخرابي
منبعُ العبقريَّةِ الحلوُ كدَّرناهُ في رِجْسِ خَمْــــرةٍ وكِعــــابِ
غيرَ أنّي …
هي:
تعالَ!
هو:
وَيْحي! …
هي:
هراءٌ أنتَ ما شئتُ
هو: (صارخاً بضعف)
لا!
هي:
وشاءَتْ رِغابي
أنتَ مِلْكي، أردتَ أمْ لمْ تُردْ.
هو: (مُستسلماً)
لا.!..
هي:
من عيوني نهلتَ كُـــوْبَ الجُحودِ
مِن رُموشي فهمتَ معنى الوجودِ
وبوَجْهي قـــرأتَ سِفْرَ العُهــــودِ
جَسَــدي مِصْهَرٌ لفـــنِّ الخلــــودِ!
هو:
كيف؟ ..
هي:
أقبِلْ!
هو:
أخافُ
هي: (تَنضُو بعض ثيابها)
خُذْني!
هو:
سُدَىً تَبغين منِّي! فمُتْعَتي من بعيـدِ
أتغذَّى بالفكْرِ!!!
هي: (بجنون)
غِرٌّ! سيَنقادُ سريعاً …. بكِسرَةٍ مِن وعــــودِ
زَهِدَ اليومَ مُذْ رآني كما يَهْوَى ..
(مُهدِّدةً)
غـــــدًا مَصْرَعُ الغُـرورِ العَنيـــدِ
(تخرج)
هو: (لنفسه)
أنا يا حُسْنُ! .. كافرٌ بكَ!. لا أرضاكَ إيماناً لي على طول باعِـكْ
أنتَ منهم معبودُهم! ذلَّ معبودٌ إلى الخــزي يرتضي بابتيـــاعِـكْ
كنتَ منِّي محطَّ قُدسِيَّةِ الأمسِ .. إلى أن قضى الهُـدى باقتلاعِــكْ
لستَ منّي .. ولستُ منكَ .. فقد مالتْ شراعي، فمِلْ إذنْ بشراعِكْ
(3 نيسان 1945)
وجهةُ نظَر
حوارٌ في منظر واحد
(من الكُفر الثاني)
المتحاورون:
«ذاك»: الأب
«تلك»: الأم
«هو»: الابن
«أنا»: أنا!
(في قبو الزمان)
ذاك:
«تلكَ» شاءتْ!
هو:
فداكَ نفسي! وما شاءتْ
ذاك:
تَرى فَرْحةً بعُرسِك يا ابْني
هو:
فرحة العُرْسِ؟.. وَيْحَ نفسي عليها أنا لمَّا أزلْ صغيــــرَ السِّنِّ
ذاك:
كيفَ؟
هو:
أنفقتُ مِن حياتيَ عقدَين!
ذاك:
أعقدانِ .. لا تَرى أنْ تَبني؟
قُلْ لها يا بُنيَّ إنكَ ترضَى!
هو:
لا! ونفسي. فما أُطيق القُيودا
أنا في روضتي، فدعْني أشمُّ الآسَ والزَّهرَ والنَّـــدى والوُرودا
لا تُصوِّحْ شبابيَ الِبكْرَ في الأصباحِ، دعْني حتَّى أشبَّ سعيـــدا
ذاك:
ضِلَّةً ما تقولُ ..
هو:
أنتَ جليلٌ. كيف تَرضى بأنْ أموتَ اعْتِصَارا
الزواجُ المجلوبُ مَقبرةُ الحسِّ …
ذاك:
ضلالاً ما تدَّعي وشَنارا
سفَّهتْكَ الأيــَّـامُ فانقَدْتَ للطَّيـــشِ وحُمِّلــــتَ رأيَها والعــــارا
الزَّواجُ المَجلوبُ يُسعِدُ …
هو: (مُقاطِعاً)
لا !.. لا!..
ذاك: (زاجراً)
أتَرى أنْ تَميـــلَ بي عن يَقيــني؟..
لمْ أُعوَّدْ تطاولاً منكَ!
هو:
عَفوًا. لم أشأْ أنْ أُثيرَ منِّي مُعيني
ليَ رأيِي أُحبُّه وأراهُ كُن مُعيني علَيــــه لا تُخزينـــي
ذاك:
يا بُنيَّ ارتدعْ! فما شئــــتُ إلّا أنْ أراكَ السَّعيدَ في أيامِــكْ
يا بُنيَّ اقتَـــــصِدْ! ولا تتبنَّــى كلَّ رأيٍ تراهُ في أَوهامِــكْ
يا بنيَّ الحَذار مِن فتنةِ الطَّيشِ ومِن خدعةِ اندفاعِ غَرامِكْ
كُن مثيلي. قالوا، فما قلتُ إلا قولَهم
هو:
لستُ أستَطيع!
ذاك:
أتَأْبى؟
هو:
يا أبي!
ذاك:
مَهْ!
هو: (متوسِّلاً)
أبي!!
ذاك:
صَهٍ
هو:
استمعْ لي!
ذاك: (غاضباً)
قدْ سمعتُ العُقوقَ يَجحَدُ رَبّا
هو: (مُستعبِراً)
أبتاهُ!
ذاك:
مَهٍ
هو:
رَضيتُ!
ذاك: (مُعانقاً ابنه)
فيـا بُشْـراكِ يا «تلك» قد أثــــابَكِ حُبّا!
أنا:
أنا يا فِكْرُ، مؤمنٌ بكَ مَزهوٌّ … أراكَ النَّهـــارَ في كــــلِّ ليـــْـلِ
كلَّما أطفأ العبـيدُ شُعاعاً مِـنْ ضيائــي وجــدتُ نـورَك يُجـلي
لم أكنْ كافراً وآمَنْتُ، لكــنْ كنتُ حُرّاً بيــــنَ العبيدِ .. فمَنْ لي
ضاعَ صوتُ الإخلاص في زحمةِ الغَدْرِ… فضمَّ الرِّئْبالُ شِبْلاً لشِبْلِ
وانزوى يَفطِمُ الشِّبالَ على الثّأرِ … فكَبِّرْ إمـّـــا لوى كــــلَّ عَبــْـــلِ
ففطامٌ عن اللِّبـــانِ رَضاعٌ بدمــــاءٍ في ثَديِ جيـــلِكَ تغـْـلي!
دمشق في 16 تشرين الأول 1948
مَصْرَعُ المَثَّال
تمثيلية شعريّة موسيقيّة
حوارٌ في مشهدين من تمثيليّة كاملة