من مذكراتي !

أهبت بقلبي

لو أن ما نملكه

الرسالة الثانية

نور من السماء !

قوس قزح


أودُّ أنْ أحبَّ

أدباءُ في الميزان الأدبيّ

كرمٌ على درب

أسس الثورة الفكرية

الحنين المجهول

خائن وخائنة

مابالهم كلما هتفوا باسمك 

وجوهٌ وطباع!

قوس قزح

1948/4/14

قالتْ وهي تنظر في إنسان عينيه:

أتُراكَ قرأتَ “قَوْسَ قُزَح” ؟…

قال ، وهو ساهم سادر:

ـ “إن الأخيلة والأحلام التي أعيشُها والتي تتبدَّى في أفُق حياتي، لم تكن إلا أقواساً من قوس قُزح ، كلُّها يلمع تارةً في نفسي – منذ أن وُلدتُ – وكلُّها يخبو إذا ما جابَهَهُ الواقع ….

أمَّا أنتِ يا قوس قُزح، فإنكِ تلك الأضواء التي برَقتْ في أُفق حياتي، فلوَّنتْها ردحاً من الزمن بأصباغ الحياة الجميلة المشرقة المرحة الفاتنة؛ التي تُطلُّ من عينيكِ السَّادرتين ومن شفتيك المرتعشتين، ومن أناملك الرَّخْصة السَّمْحة البضَّة، فأودُّ أن ألقاكِ أبداً وأعيشَكِ سَرْمدا !”

وأرجو ألّا يغيب “قوس قزح” في أجمل أيام الربيع.

قوس_قزح

نور من السماء !

نور_من_السماء

كُتبَ عليه القلق من يوم تفتَّحتْ عيناه على الدنيا ، شاباً يتطلَّع إلى هذا اللَّون الزاهي من التحرر ، ولم يكن الاستقرار يصافح نفسه في يومٍ من أيامه ، فمِن قلَقٍ إلى شكٍّ ، إلى هذا المزيج منهما  ، لا يدري متى يبدأ يومه ، وما يكاد يبدأ حتى يتطلَّع إلى منتهاه ، منتظراً  أن يكون غدُه خيراً من يومه  !

الرسالة الثانية

سكبتُ بالأمس نفسي قطراتٍ على الورق الجامد، فركضت فيه حياة ؛ هي حياتي أنا ، وسقتُ ذاك الكتاب إليك بالبريد ، فهل تُراه كان أميناً فأوصله مندَّى بأنفاسي ، معطَّراً بروحيتي ، أم أنَّه قذفَه بين يديك قذفاً، وقد تلوَّث غلافه ، وعلقت به من الإنسان لطخٌ سوداء ؟؟؟…

عجيبٌ هو أمر هذا القلب ، الذي ما انفكَّ يخفق خفقاناً  سريعاً متواتراً  كلما عاد بالذاكرة إلى أنه كتب لك كتاباً بين نفسه و حسَّه، وعاطفته وعقله ، ولكن : أللقلب عقلُ ؟…

الرسالة_الثانية

لو أن ما نملكه

 ليل 20 نيسان 1946

لو_ان_مانملكه

لو أنَّ ما نملكه من المحبَّة نوزِّعُه على أجزاء جسدنا، لازدهر كيانُنا مجموعاً، وتمتَّع بالنشوة الخالدة!

أهبت بقلبي

1948/8/4

أهبتُ بقلبي إليك أن يهتفَ فهتف! ودعوتُ الهوى أن يعصفَ فعصف، وهبَّتْ عليّ وبعدها أراييج من الشوق العارم والحنين الدائم ، فتذوَّقتُ في حُبّيك ألوان الأسى الجميل والجوى العذب والهوى المُذيب، ورتعتُ في أجواء من الرفعة المطلقة التي لم تمسَّها أوضار المادة وأرجاس الحياة؛ وأرِقتُ ، وفي الأرق نعيم. وسهرتُ وفي السَّهر كلوم، وألِمتُ، وفي الألمِ انصهار وتطهُّر! وما أحوجني دائماً وأبداً إلى الانصهار والتطهُّر!

ثم… ضرب الواقعُ بيننا، فإذا بنا شتيتين في أرض الله الواسعة، أمدُّ إليكِ جفني فلا يطاولك، وأمدُّ إليكِ يدي فلا تنالك؛ وأمدُّ إليكِ نظر القلب فيَلفيكِ قد شُغلتِ عنه وعنِّي . كأنْ لم تستقي كؤوسَ المحبة من دِناني، وعصيرَ الهوى من وجداني.

اهبت_بقلبي

من مذكراتي !

1946/10/29

من_مذكراتي

لم يبقَ لها في نفسي إلّا القدسية العميقة الغويرة التي ترتفع من آنٍ لآن ابتهالات الروح وصلوات المحبَّة إلى آفاق نفسي الظمآى فتجد لها هناك إمكانيات التجمُّع معاً لتلاوة ترتيلات الحبّ العذريّ في محراب القلب الخفَّاق !

وَيْحَها كيف تملكُ أن تلفتَ رأسها يمنةً وهي تمرُّ من أمام غرفتي ؟ أليس لها ذلك القلب النابض ؟ أفما يعتلج في ضميرها طائر الحبِّ ويرنِّم هناك تسبيحاتٍ وأغروداتٍ  أقلُّ ما فيها إثباتٌ لحيويَّةٍ وإشباعٌ لرغبات الشباب !

  الشباب ؟

وَيحي ووَيْحَها  ، فكلما خبَّ بنا العمر منسرِحاً من آفاق الشباب ، كلّما ازددنا جهالةً لقيمته ، حتى إذا أدركتْنا الشيخوخة عكفنا نبكي بدموع الحياة أيامَ الشباب الغابرة !

الحنين المجهول

كان يعرفُها، فأحبَّها ثم عبدَها … وكان يمرُّ من أمام منزلها كلَّ ليلة؛ حيث تحيط الرياض والبساتين ذاك المنزل المعبود !… ثم تحابَّا معاً، وتزوجَّا، وتغيَّر المنزل … ولكنه ما فتئ على سهومه ، وما زال في كلِّ يوم، وفي الرابعة صباحاً ، يغادر المنزل ليلقى تلك التي تنتظره على الشرفة في الدار التي تحيط بها تلك الرياض !..

الحنين-المجهول

خائن وخائنة

خائن_وخائنة

لفَّهما ليلٌ، ليس بالسَّاجي ولا بالمدلهمِّ ، يتكاثفُ منه ضبابٌ مظلمٌ ، ويتقاطرُ من سَمَواته نيازكُ أفكارٍ مرتعشة حيناً، ومنقضة حيناً، وبين الارتعاش والانقضاض أحياناً؛ فيها بريق رعشة، وومضة قلق، وانطفاءة شهوة!

واحتوتهما غرفة ضيقة، كئيبة، متقاربة الجدران، ومندفعة السقف نحو الأرض؛ يُنيرها سِراجٌ مريضٌ يتشاحبُ ويتثاءبُ بذبولٍ و ضِعَةٍ .. فيتراقص…..

أسس الثورة الفكرية

امرأةٌ حمراءُ ثائرة! وكأس متدفقة ثائرة! ونفسٌ قذرة ثائرة !

أما هذا الاستسلام الذي نعانيه كمحصِّلة لاستعمار ألف عام أو أقلّ ؛

أما هذا الإذعان الذي يجري في عُروقنا كحصادٍ لما بذره المستعمر منذ ألف عام أو أقلّ!

أمَّا هذا الإيمان المنفعل اللا فاعل الذي هو أشبه بالمخدِّر منه للمنبِّه

أمَّا هذه الظاهرات الدينية في المظهر لا في الجوهر!

أمَّا هذه السيطرة الرجعية القائمة على أساس الكثرة الجماهيرية الشعبية

أما هذا الانحدار الأخلاقي في مظاهر التعفف والصلاح والتقوى

أما هذا التواطؤ على سلامة الفكر ووضعه في قمقم من التقاليد والعادات الموروثة

فإن هذه الأشياء والظاهرات والواقعيَّات هي أصنام يجب أن نحطمها ،كما حطم محمدٌ صلى الله عليه وسلَّم من قبل أصنام الوثنية التي لم تكن تمثل إلا الرجعية!

أسس_الثورة_الفكرية

حول كتاب « كرمٌ على درب » 

تأليف الأستاذ ميخائيل نعيمه

 في 101 صفحة من القطع المتوسط

  طبعته ونشرته دار المعارف بالقاهرة

karm_darb

“يا للعجيبة ! أزرعُ قلبي على الوَرقِ  فيَنبُتُ في قلوبِ الناسِ !” (ميخائيل نعيمه ).

وحقاً هي عجيبة ! وتلك هي العجيبة الأزلية التي قامت منذ آدم وتوالي الرسل والأنبياء، أولئك العباقرة الذين أتوا ببذارهم فألقوه تارةً في التراب فأنبت نباتاً طيباً حيناً، خبيثاً حيناً، وألقوه تارةً في القلوب، فأنبت محبةً حيناً، وبُغضاً حيناً !

أجل إنها عجيبةٌ هذا القصب الذي ينفخ فيه النافخ فما يُصعِّد أنغاماً متساوقة “متنافرة”، ولكنه يُنبتُ كائناتٍ حيّة لها موسيقاها ولها وجودُها، ولها كيانُها، ولها هُيولاها، ولها جمالُها السرمديّ الخالد !  تلك أعجوبة القلم الذي يزرعُ الكلمات على الورق فينبت نباتاتٍ في قلوب الناس ! وأيّ قلم ذيّاك القلم ؟  إنه قلم ميخائيل نُعيمه كبير أدباء العربية تفكيراً ونضوجاً ورصانةً !

أتاح لي القدر أن أستمع في صيف 1945 إلى الأستاذ الكبير ميخائيل نُعيمة وهو يقرأعليّ بعضاً من كتاباته التي جمعها فيما بعد بكتابٍ أسماه ” كرمٌ على درب ” ونشرَته حديثاً “دار المعارف للطباعة والنشر” بالقاهرة أميزَ نشرٍ وآنقه ، فجاء الكتابُ آيةً في صحفه : كلماتٍ وورقاً وطباعةً وإخراجاً !

ولقد رجعتُ من ” بكسنتا ” آيباً  بزادَيْن : أولهما زادُ المعرفة الشخصية بمفكِّر الشخروب،  وثانيهما زادُ المعرفة الفكرية بهذه الآيات التي أطلقها الأستاذ ميخائيل أصداء من كهف وجوده فترانَّت في أحناء صدري ومحرابه تدوّي هناك أبداً وترتّلُ معه :

” يا لوحدةِ مَنْ إذا نادى: يا أخي ! ما أجابَهُ إلّا الًّذينَ ولدَتْهم أمُّه ! “

_______________________________________

بسكنتا : هي القرية الجبلية اللبنانية..التي يقيم بها ميخائيل نعيمه.

أدباءُ في الميزان الأدبيّ

تجتاح العالم اليوم دفقةٌ عربيدة من الأفكار؛ إن الرَّخيصة أو العاديّة أو الغالية. والعالم في هذه الفترة ضليلٌ مرهقٌ، زائغ النظر مضطرب اللبّ، بعد أن أرهقتْ أعصابه الدَّفقات المتتالية والطويلة الأجل من الأمور المثيرة، حتى أصبحتْ لديه الجدائد، فإذا بها شاحبة التأثير فقيدة الفاعلية، جنحَ بعدها – للتخلُّص من هذه الفترة القلقة ـ إلى مفاتن الحياة وملاهيها، يدفن هناك انحلال أعصابه ليرجع شابّاً بكلِّ شيء حتى في تفكيره.

فمِن الناس مَنْ جنح للملاهي على تعدُّد ألوانها؛ فاتّخذ المقهى داراً له تخلق من حوله جوّاً أقرب إلى ماضيه منه إلى حاضره، واتّخذ الحلقاتِ مَعْبَراً نحو غده من أمسه ويومه، وانصرف للأدب يعبث بقلمه على وريقةٍ ناصعةٍ مشرقة، يحسب بعدها أنه أنتج مشرقاً ناصعاً. وبين هؤلاء وهؤلاء نفرٌ لا يزال يُعمِل الفكْر جاهداً ليغرَق في الواقع أكثر مما يُغرِقه الواقع فيه، ونفرٌ ثانٍ أخطأ فَهْم اتّجاه هذه الفئة وتلك، فراح يعمل متأثّراً خُطى أولاء وأولئك فضلَّ كما ضلَّ “الحَجَل”؛ فما يتميَّز عمله بنبرة أو اتجاه:  فهو خليطٌ من الواقع والخيال والأدب والحرب والتّجارة والمجالس والمقاهي والدُّور. وهو أكثر الناس خسارة.

وفي هذه الفترة الضليلة الضَّالة، نجد العالم العربيّ خاصّةً آخذاً سَمْتَه نحو فكرةٍ واحدة: هي الإنتاج الأدبي، فانطلقت أصواتُ المطابع بعد أن حُبستْ طويلاً، وتعالى دخَّان التفكير، وأخذتْ غُرَف الأدباء والمتأدبين والأساتذة تبقى مضاءة ًحتى الصباح المُشرق. وامتلأت بالتالي “صحون السجائر” ببقايا اللفافات بعضُها لمّا يزلْ فتيّاً.

نحن الآن في هذا الجوّ؛ نستمعُ الى همَسات هذا، ونرقبُ أعمال ذاك، ونقرأ إنتاج أولئك.

مضى على قيام هذه المَجزرة ما يقرُب من خمس سنوات. كانت منضدتي قبل ذلك ما ينتصبُ عليها أيّ كتاب؛ فإذا بها اليوم وقد استقام عليها مئة كتاب وكتاب بل مئات كتاب وكتاب!..

هذا محصول الحرب. هذه هي الجملة التي تطالعُها منقوشةً في الصفحة الأولى من أيّ كتاب، ولو أنها قد لا تكون مكتوبةً بالمداد الأسود أو الأزرق أو الأحمر، إلّا أنَّها منقوشةٌ بحروفٍ من نار، ترقص أمام ناظريك إنْ شئتَ أمْ أبيت. فلو أنَّ الزَّمان استمرَّ مئاتٍ من الأعوام، وجاء عام 2944 م، وطالعَ قارئٌ هذه الكتب لما شعر إلّا بسِمَةٍ واحدة: هي سِمَةُ الحرب.

ولكن ما هي سمة الحرب هذه؟

إنتاجٌ ثرٌّ! وأدبٌ فارغ!
الحربُ قد فرضتْ ـ مع وجودها ـ الإنتاجَ الغزير! أو كأنّما استشعر النّاس أنَّ زمن الحرب فرصةٌ ملائمة فمن الخَطَل تركها تفلتُ من بين الأصابع! الفرصة .. والزمن .. والخشية من انتهاء الحرب .. والمال .. والجشع .. وحُبُّ الظُّهور .. ووجود القارئ الرَّاغب في تضياع الوقت .. كلُّ ذلك، خلق أدب الحرب.

فالأديب الذي يملك رأسمالاً ضيّقاً، انفلت نحو الكتب الغربيّة يشوّهها أو “يسلقها” لتخرج كائنةً حيًّةً تأخذ وجودها تحت شمس الحرب!

والأديب الذي لا يملك راسمالاً: إنْ ضئيلاً وإنْ كبيراً، راحَ يسطو على كتب الأقدمين يشوّه من خلقتها ليظهرَها مخلوقةً جديدةً لا يرى اضطراب معالم وجهها، أو يرى ذلك ولكنَّ الزمن يسوقه بعصاه السحرية: الحرب والزمن!

والأديب الذي يملك رأسمالاً كبيراً وضخماً ولكنه افتقده؛ إذا به منطوٍعلى نفسه يرقب انتهاء الحرب، ووجد نفسه وجهاً لوجه أمام معمعة الأدب والإنتاج، ولم يستطع أن ينتج أدباً للحرب!

                                                           زهير ميرزا

balance1
balanse2

أودُّ أنْ أحبَّ

1941/11/11

anOheb
awdanoheb

عند مفترق الطريق، طريق الحياة، وقفتُ بين ذكرى الطفولة وحاضر الشباب أقلِّبُ الطرْفَ في هذا الوجود باحثاً عن شيء كنت أشعر بأني بأشد الحاجة إليه فراغٌ مروِّعٌ ، ووحشةٌ قاتلة، وتعطُّشٌ هائل ، ورغبةٌ ملحَّة ، وفضولٌ صخّاب ، كل ذلك كان يعتمل  في نفسي ويرهقها تفكيراً، كنت أشعر أنه يجب أن أحب.

لم تكن نفسي وهي في هذا المفترق الوعر لتدري ماهيَّة الحب ، ولامركزه السّامي  في النفوس ، ولا أثره السحريّ في انبثاق الأمل في القلوب العطشى ، كل ماتدريه ، أن هذا الفراغ الهائل الذي روَّعَ القلب  ، يجب أن يُملأ ، وبعد خمسة أعوام مرّت شديدة الوطأة القتَّالة ، علمت أنه : يجب أن أحب!

فتشت في مجاني الخيال عن خدينة لحياتي أهبُها روحيتي وشبابي فوجدتُها تنأى عني كلما اقتربتُ منها كأني جرثومةٌ فتاك ؛ فراودَ اليأسُ قلبي ولكني لم أُخذَل !

وفتّشتُ في زوايا الماضي الإغريقي عن ربّةٍ من ربَّاته أبثُّها تلك الكلمة التي مانطقتُ بها في وحدتي إلا اعترتني هزّةُ إشفاقٍ على شبابي الضائع؛ فوجدتُها منصرفةً عني بخلودها وكأني ذُبالةُ شمعةٍ لا تلبث أن تتلاشى في دنيا المادة ، فراودَ اليأسُ قلبي ولكني لم أُخذَل.

وفتّشتُ في رياض الأرض عن الجمال الكلّيّ – لأني بروحيّتي أميلُ للجمال الأسمى ،-  فوجدتُه غارقاً في دنيا من المعجبين به يُوزِّعُ  البسمات جذافاً ليحظى بظاهر الاستحسان غير عابئٍ باللُّباب، فراودَ اليأسُ قلبي  ولكني لم أُخْذَل !.

وفتشتُ في حقول النساء عن الجمال العاديّ، فوجدتُه يُلبِسُ نفسَه لباس الجمال الأسمى ليحظى بالرفعة المصطنعة ، وما كان ليرضيه مَنْ يفتشُ عن الجمال الريفيّ فاشمأزَّ مني كأني شبح المستقبل الرهيب الذي سيكشف حقيقته الزائلة ،وجفاني جفوةً قتَّالة ؛ فراودَ اليأسُ قلبي ولكني لم أُخْذَل !

وفتشتُ في دُنى المرأة عن  إنسانةٍ مثَّلَتِ الجاحظ في جماله ، فوجدتُها تبحث نهمةً عمن يسقيها اللّذَّة الماديّة بعد أن فقدت اللّذّة الروحيّة ، فنأيتُ عنها – لا نأتْ عني – ووجدتُها جرثومةً لاتنفك تنفثُ سمومها في النفوس المريضة ؛ فانزويتُ أبكي نفسي وشبابي وأنادي في يقظتي ومنامي ، بجنون ، بثورة ، بانفعال ، بذلّة ، وبيأسٍ فوَّار :

أريدُ … أريدُ أن أُحبّ !

ولكن هيهات …

مابالهم كلما هتفوا باسمك   

مابالُهم كلّما هتفوا باسمكِ أو افترَّت شفاهم بلفظهِ هلَّلوا وكبّروا ، ونفضوا في كلِّ حرف من أحرفه حياةً رغدةً ومحبّةً عميقة كأنَّما هم في محرابٍ من المحاريب المقدّسة ؛ فهم به يهمسون ، وبأحرفه يترنَّمون ويهزجون ، ولمقطعه يرتِّلون ، كأنما فيهم روحٌ وغمزاتٌ يحاولون بها أن يلتفتوا إلى عصَب الحسِّ من وجداني فيلمسوه لمساً رفيقاً ناعماً ، ويداعبوه مداعبةً أشعر بعدها باعتصارٍ مؤلمٍ عذبٍ ، يمرُّ بقلبي فيُشيعُ هناك ضيقاً في الحركة وانكماشاً في الحياة ووقوفاً عن جريان الفكْر ؛ فكأنما اسمكِ قيدٌ يقيّد الحواسَّ ويُحدُّ من فاعليتها، وكهرباء تسري في العصب الحيّ فتتركه عاطلاً من حلية النبض والانطلاق؛  فهو بعدها أسيرٌ مقيّد ، لا يملكُ من أمر نفسه إلا التلفّتَ إلى أوجه الهاتفين باسمك متقرّياً ما يقصدون ، واستقراء الشفاه علّه يدرك المدى الذي إليه يهدفون!

أهذا الذي بي هوىً أم مثيلُه؟ أ فبكِ مثل ما بي، وبذهنيتك مثل ما بذهنيتي؟

إنني أبدأ أشربُ الألم مع كأس الحياة الذي بين يديك ، وأطعم الضيق من القصعة التي تُقدَّم من عينيك ، وأتنفّسُ الاكتئابَ من النسيم الذي يمرُّ بوجنتيك !

ليس لجسدك عليَّ حقٌّ،  ولكنْ لقلبي عندك كلّ الحقّ ؛ فأنتِ الوحيدة التي بمستطاعها أن تُحدِّد من نبضاته وتُبطلها ، وأن تمدَّ في فاعليتها وتُطْلقها !

mabalhem

وجوهٌ وطباع!

ما أظنُّ قارئَ “الدُّنيا” إلّا ويودُّ لو كان أمام ناظرَيه “تلفزيون” يُريه الصُّور الحيَّة المتحرِّكة لهذه القبْضة من أدباء الشّام، تنطبع هذه الصُّورة في خاطره يستدعيها إمّا طالعَ مؤَلَّفاً لهذا الكاتب أو مرَّ بمقطوعةٍ لذاك الشّاعر أو شُغِلَ بمقالٍ لغيرهما. فإنّه مما يلذُّ للنّفس القارئة أن تُشرِكَ عدّةَ عوامل معها في مطالعتها: فنظرُها يستجلي الأناقة في الحرف ورَصْفه إلى جانب أخيه، وفكرُها يتمزَّزُ الخواطر التي يبثُّها الكاتب بين سطور مقاله، وخاطرُها يستوضح وجه الكاتب ويضع الأفكار المبثوثة في موضعها من تلك القسَمات، وعاطفتُها تتقرَّى مواطن الجمال فتأنس بها وتركن إليها؛ حتى إذا انتهى من قراءته خرج بجمعٍ من اللَّذاتِ والنشَواتِ اللطيفة التي يتوخّاها كلُّ قارئٍ ويسعى إليها كلُّ مطالع.

وأحسبني سأكون ذلك “التلفزيون” الذي يقدِّم للقُرّاء خطوطاً أساسية لوجه كلِّ كاتب، ويعرِضُ جانباً من طباعه أو لفَتاتِه المألوفة عنه والتي يتميَّز بها. وإني لأستسمح الأدباء الذين سأعرض لهم بالتصوير؛ فما أراه أنا من خطوط وجههم لا يرونَه هم، وما أكشفه من جوانب حياتهم الاجتماعيّة لا يستشعرونه هم. ولكن ليتأكّدوا من إخلاصي وليطمئِنُّوا إلى صدقي، فما أنا إلّا ذلك التلفزيون الذي ينقل ما هو موجود، لا ما يجب أن يوجد أو ما ليس موجوداً.

وأمام ناظريَّ الآن تتراقص عدّة صورٍ لعدّةِ أدباء، وسأنتقي من هذه الخيالات أكثرَها تراقُصاً حتى أستريح منه إلى غيره. فهنا على الحائط الأبيض الضيّق الذي تنتهي إليه إشعاعاتُ خاطري لتوضِّح ما تتخيَّله أرى وجهاً مستديراً في استطالةٍ تولّدتْ من نوع “الحلاقة” التي يحلقها والتي يغمزُ فيها جانب الحلّاق أن يذهب بأكبر قسمٍ من شَعره لعلَّ في ذاك ما يُغري بعضَهُنَّ أو بعضَهُم بشبابه ـ الذي يريده نَضِراًـ  فانصبّتْ عليه من السّنين ثلاثونَ ـ أو تزيد حتماً ـ تركتْه غيرَ نَضِرٍ إلّا في فترات الحلاقة … يجلس على عرش شفته العليا شاربٌ كلّما امتدّ بصاحبه الزمن امتدّت يدُ الحلّاق ـ أو أرادهُ صاحبنا ـ لتُعمِل فيه “قصقصةً” وتزييناً وتضييقاً وتقصيراً حتى غدا في الفترة الأخيرة وكأنه “وهمُ” شاربٍ لا شارب!

يتفيّأ هذا الشارب بفيء أنفٍ مُحترمٍ فيطمئنُّ اطمئناناً كلّيّاً أنّ الشّمسَ لن تلفحَه يوماً لفحاً مُلحِفاً مُحرِقاً يتركه يتصبَّبُ عَرَقاً. وصاحبنا يستطيع أن يُقسِم أنَّ شاربه ما اضطره يوماً لاستعمال منديله بسبيل تجفيف نقاط “العَرَق” التي تتصبَّب عادةً من “شوارب” الآخرين، كلُّ ذلك بفضل الأنف العظيم الذي يُلقي بمثل هذا الظلّ. خيشوما هذا الأنف المحترم كأنهما خطّان من قلمِ “فحمٍ” على شكل “V” شارة النَّصر. رأس هذه الشّارة أرنبة الأنف ويشير الضلع الأوّل إلى طرف الشارب الأيمن ويُومئ الضلع الثاني إلى نهاية الشارب الأيسر، فكأنك بهذين الضّلعين الملتقيين في نقطةٍ ـ هي أرنبةُ أنفِه ـ يحصُران بينهما الشارب بأجمعه. والأنف بعد هذا كتلةٌ واحدةٌ متراصَّةٌ ملتحمة لا اعوجاج فيها ولا أمْتَ، ولا خطوط ولا تعاريج. كتلةٌ قيلَ لها كوني فكانتْ، مبدؤها انسيابٌ من بين الحاجبين بشكلٍ طبيعيّ، ومُنتهاها استقرَّ أبترَ يحاولُ عبثاً أن يُلقي عصا القلق، وينتظر عبثاً أن يستريح من عناء هذا الانقطاع المُفاجئ. وإذا استطعتَ أن تتطاول وتتطاول وتتطاول – وأنتَ مُتمركزٌ بين حاجبيه – أمكنك بعد عُسْرٍ شديدٍ أن تلمح خطّين خفيفين أحدُهما عن يمين أرنبة الأنف وثانيهما عن يسارها، وتشعر – بالشّعور فقط – أنَّ هذا ثَغْرٌ، ذابتْ شفتاه رقَّةً واستحالتْ إلى خيطٍ ينمُّ عن وجود شفتين فيما مضى. ويمكنك بكثيرٍ من العَناء أن تستنتج أنَّ هذين الخطَّين إنَّما نشآ عنوةً من جرّاء مكانك الذي تُطِلُّ فيه على الثَّغر. فإن حوَّلتَ مكانك ووقفتَ تجاه الوجه مباشرةً تأكّدتَ أنَّ ما ذهبتَ إليه صحيحٌ!

فالشفةُ السُّفلى بيضاء أبداً تُشكِّل جزءاً من حلقةٍ ليس فيها أيُّ جفافٍ قد يُغيِّرُ من استقامتها ويجعل لها شكل الثَّغر. أما شَفَتُه السُّفلى فمتمِّمٌ طبيعيٌّ لمثل هذا الجزء الأول من الحلَقة؛ وثغرُه ـ بصورةٍ عامّةٍـ ثغرٌ باردٌ “لا بَرود” طبيعيٌّ إلى حدٍّ بعيد، لا يمكن أن يُستشَفَّ من خلاله أو منه أيُّ شيء عن نفسيّة صاحبه؛ حتى إذا باعد ما بين شفتيه ضاحكاً – وما أكثر ما يضحك – اندفع منظر أسنانه إلى نظرك اندفاعاً واضحاً ليُرينا صفَّين عجيبين من الأسنان؛ تبدأ قواطعها من الأمام طويلةً وكبيرةً وفيها هيئة الهجوم إلى أمام، وبعد النّابين – إنْ تمكنّتَ من التطلّع – لا شيء! أجل لا شيء، فكأنما دقّتْ أضراسُه، من طول ما يلوك الطعام بين شدقيه، وذابت وأبقتْ مكانها نتوءاتٍ صغيرةً تُنبئ عن وجود أضراسٍ فيما مضى. هذا في فكِّه العلْويّ؛ أمّا فكّه السفليّ فيتَّصل ـ عدا عن قواطعه المشابهة بقواطع الفكِّ الأعلى ـ بذقنٍ لها دوران إهليجيّ، وكأنَّي يُخيَّلُ إليّ أنَّ في وسطها “طابَعاً” أو “غمّازةً”. فلستُ بمُستطيعٍ القول إنَّ له “غمّازة” أو “طابَعاً” ولستُ أيضاً بمُستطيعٍ نكران وجود هذا “الطابَع” أو “الغمّازة”. 

وهو القائلُ: الحياة لقمةٌ لذيذةٌ وشيء آخر … التي كُتبتْ له ولغيره أو التي لمْ تُكتَب حتى.